إنّ التأثير المباشر للعقوبات، وآخرها على رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، هو على ميزان القوى السياسي في لبنان وليس على تأليف الحكومة التي ستكون فاقدة للوزن والتوازن.
تبايَنت وجهات النظر بين من اعتبر انّ العقوبات تطيح الحكومة من زاوية انها تعزّز دور الرئيس المكلف سعد الحريري في عملية التأليف على حساب رئيس الجمهورية ميشال عون وخلفه باسيل، فيرفض الحريري، مُتكئاً على العقوبات، أن يحتفظ «التيار الحر» بالطاقة او ان يسمّي الوزراء المسيحيين، لأنّ حكومته ستكون بدورها عُرضة للعقوبات في حال احتفظ باسيل بالوزارات التي كانت في عهدته او شارك في تسمية الوزراء. وبما انه لا يمكن إخفاء مسألة التسمية على أحدـ سيتشَدّد الحريري وسيُقابَل بتشَدّد مماثل من عون وباسيل، فتصبح المساعي الحكومية في خبر كان.
وفي المقابل، هناك من يعتبر انّ مسار التأليف لا علاقة له بمسار العقوبات، وانّ ما بعد العقوبات سيكون كما قبلها لجهة استحالة تأليفها قبل ان ينتزع العهد كلّ ما يريده من هذه الحكومة، وانه سيقفل الباب أمام اي تَذرّع بالقرار الأميركي، لأنّ ما ينطبق على الطاقة او تسمية الوزراء ينسحب على المالية والثنائي الشيعي و»المردة» مع النائب علي حسن خليل والوزير السابق يوسف فنيانوس. وبالتالي، لن يكون العهد في موقع ضعف نتيجة التطور الأخير، ولن يتهاون في حصته، فضلاً عن انّ «حزب الله»، الذي يدعمه أساساً، سيَجد نفسه بعد العقوبات في موقع الداعم له بالمطلق، ولن يقبل بتشكيل اي حكومة على حساب العهد الذي عوقِب بسبب العلاقة معه.
وفي موازاة هذا الرأي او ذاك، ثمّة من يرى انّ العقوبات ستُسرِّع في تأليف الحكومة، فتضع كل القوى المشاركة في تأليفها الماء في نبيذها وتعمل على تخريج التشكيلة بأسرع وقت ممكن من أجل ان تَحرف الأنظار عن العقوبات، ويتحوّل معظم النقاش حول الحكومة ونوعية وزرائها وبيانها الوزاري.
وإذا كانت العقوبات تجعل الحريري تلقائيّاً في موقع قوة مقابل العهد الذي يجد نفسه في موقع ضعف بسبب توالي الأزمات عليه، وآخرها العقوبات التي أصابته في الصميم، إلّا انّ الأخير لن يتساهل في تأليف الحكومة التي قد تكون الأخيرة في عهده، فضلاً عن انّ العقوبات ستدفعه إلى التشدّد لا التساهُل، فيما سيكون على الرئيس المكلّف ان يقرر ما إذا كان في وارد مواصلة مهمته بتأليف حكومة تضم 4 مكوّنات طالَتها العقوبات («حزب الله» و»أمل» و»المردة» و»التيار الوطني الحر»)، أو التَشَدد بتأليف حكومة مستقلّين اختصاصيين تبدأ من رفضه إبقاء وزارة المالية في كنف «الثنائي الشيعي»، لأنّ الاستثناء لا يجوز وينسف كل مبدأ المداورة، او الاعتذار وترك مهمة الحكومة على عاتق فريق 8 آذار.
فالعقوبات يجب ان تشكّل فرصة للرئيس الحريري من أجل ان يرفع سقفه إلى الحد الأقصى بوضع الجميع أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا تأليف حكومة مستقلين اختصاصيين لا تأثير فيها لأيّ فريق سياسي بدءاً من «الثنائي الشيعي»، وإمّا الاعتذار تاركاً فريق 8 آذار يتخبّط في أزمته وعقوباته. فأين مصلحة الحريري في ترؤس حكومة تشكّل مطلباً لهذا الفريق وغير قادرة على الإنقاذ، لا سيما بعد العقوبات وفي ظل التمسّك بحكومة تكنو-سياسية؟ ولا يفترض بالحريري أن يُبدّد هذه الفرصة التي يجب التعامل معها على طريقة «دِق الحديد وهو حامي»، فيرفع تشكيلته، التي تُراعي ثلاثية المداورة والاستقلالية والاختصاص، بهدف ان ترفض تمهيداً لاعتذاره.
وإذا كان فريق 8 آذار لم يكن يوماً في وارد القبول بتأليف حكومة لا تتضمّن وجوهاً سياسية بارزة لولا الأزمة المالية والانتفاضة الشعبية، فإنّ العقوبات تشكّل عاملاً إضافياً وحاسماً لتشكيل حكومة من المستقلين فعلاً لا على نسق حكومة الرئيس حسان دياب، وقد قدمّت العقوبات ورقة قوة للرئيس المكلّف عليه توظيفها واستخدامها وعدم تبديدها، ليس من باب التشفّي والاستقواء بالعضلات الأميركية، إنما من زاوية انّ أي حكومة مؤلفة من القوى السياسية نفسها التي أوصَلت لبنان إلى الانهيار لا يمكنها إنقاذه، بدليل الحكومة المستقيلة.
ومن المفيد التذكير بأنّ العقوبات تشكل الضربة الثالثة للعهد وفريق 8 آذار الأكثري بعد الانتفاضة الشعبية والأزمة المالية، وقد تكون الضربة الرابعة بعد انفجار 4 آب، وكل هذه الضربات جعلته يتخبّط من دون القدرة على إيجاد الحلول لكيفية إيصال لبنان إلى شاطئ الأمان في ظل انعدام الثقة الداخلية والحصار الخارجي الذي لا يمكن فكُّه سوى عن طريق الإصلاحات التي لن تُنجز وتتحقق إلّا بعد تأليف حكومة خالية من تأثير القوى السياسية، الأمر الذي ما زال متعذّراً.
وإذا كانت الأزمة المالية والانتفاضة الشعبية جعلتا ميزان القوى «طابِشاً» في الاتجاه الآخر، فكيف بالحري بعد العقوبات التي دخلت بقوة على المسرح السياسي اللبناني ولا يبدو انها ستقف عند هذا الحد؟ الأمر الذي يجعل فريق 8 آذار في أضعف وضعية له بعد العام 2005، وهذا لا يعني استغلال هذه الأوضاع في محاولة انقلاب سياسي تُعيد البلد إلى زمن الانقسام العمودي، إنما تخيير هذا الفريق بكل بساطة بين أن يحكم منفرداً بشروطه، وبين ان يتنحّى ويجلس جانباً شأنه شأن غيره في سبيل الإنقاذ الذي يستدعي حكومة من طبيعة استثنائية ولفترة محددة، لا سيما انّ ميزان القوى بعد كل هذه التطورات لم يعد يسمح بأن يواصل فريق 8 آذار حُكمه للبلد.
والكلام عن العقوبات هو في السياسة لا الشخصي، كونه مُعطى سياسياً لا يمكن تجاهله والتعامل معه وكأنه غير موجود، خصوصاً بعد استهدافه رئيس الظل باسيل، ولأنه سيكون لهذا التطور تأثيره، ليس فقط على التوازنات الوطنية، إنما أيضاً على المسار العام للدولة التي لا يمكنها السير في ظل عقوبات على أبرز أركانها تُضاف إلى الأزمة المالية المُستعصية على الحل مع الفريق نفسه. ولذلك، يجب تَلقُّف هذا المُعطى الجديد الذي يتجاوز بمفاعيله القرارات الدولية، بل يمكن إدراجه بالقرارات الدولية التي توضَع تحت الفصل السابع، وهذا أقصى تدخّل محتمل من قبل واشنطن لبنانيّاً، فيما لا يفيد الكلام الطوباوي عن تدخّل أميركي وغيره، لأنّ واشنطن تتحكّم بالعالم ماليّاً، وللعقوبات مفاعيل كبرى، ولا يستطيع لبنان ان يعيش في عزلة عن العالم بدليل انّ عزلته الجزئية بسبب السياسات المعتمدة أدّت إلى انهياره، فكيف بالحري في حال تَحوّلت العزلة إلى شاملة، في الوقت الذي يجب ان يبحث لبنان في كيفية رفع هذه العقوبات وإعادة الوَصل مع العالمين العربي والغربي، وليس مواصلة السياسة نفسها.
وبمعزل عن الأسباب التي حالت دون ان تستفيد قوى 14 آذار بين عامي 2005 و2009 من الدعم الدولي، وتحديداً الأميركي، مع إصدار رزمة من القرارات والبيانات الدولية، فإنّ العقوبات الأميركية المعطوفة على الأزمة المالية والانتفاضة الشعبية والحصار الخليجي والدولي على لبنان، يجب ان تدفع القوى السياسية، وفي طليعتها قوى 14 سابقاً، إلى محاولة إسقاط الستاتيكو الحالي عن طريق تحريكه من خلال فك الارتباط مع العهد وقوى 8 آذار تمهيداً لتسوية لا مواجهة، والوقت الحالي هو الأفضل ومن الخطأ تفويته بأيّ حجة، خصوصاً انّ الأزمة أكبر أساساً من تشكيل حكومة وغيره، والحكومة لن تشكّل حلاً ولو جزئيّاً، فيما المطلوب تسوية حقيقية على كل شيء، وقد آن أوانها مع الانهيار الشامل الحاصل، ولكن هذه التسوية لا يمكن ولوجها إلا من خلال القَطع السلطوي مع الأكثرية الحاكمة من أجل ان تُدرك أنّ قيادة البلد إمّا تكون مشتركة او فلتتحمّل منفردة مسؤولية إغراقه.