مع اقتراب موعد القمة العربية، المقرّر عقدها في الرياض الشهر المقبل، يرتفع منسوب التحدي لدى القوى العربية الساعية إلى التطبيع مع نظام الرئيس بشار الأسد. وبعدما بَدا التطبيع محسوماً، تباطأت الخطى نسبياً في الأيام الأخيرة. ويقول العارفون: «فتشوا عن أميركا»!
عندما باشرت القيادة السعودية الجديدة مسار التطبيع مع الأسد، لم تكترث للاعتراضات الأميركية المتوقعة. وفي تقديرها أن مصلحة المملكة تكمن في الانفتاح شرقا وغربا وتنويع مصادر الدعم والتبادل. ولذلك، أحدثت الرياض في الأشهر الأخيرة خروقات واسعة في جدران العلاقات مع الصين وإيران ونظام الأسد.
وأساساً، ومنذ اللحظة الأولى، نشأت علاقات متوترة أو فاترة بين القيادة السعودية الشابة وإدارة الرئيس جو بايدن.
بعض المتابعين في الخليج ينتقدون واشنطن بالقول: يتصرف الأميركيون وكأنهم ما زالوا ممسكين وحدهم بزمام الأمور في الشرق الأوسط. وقد تمادت إدارة بايدن في توجيه الانتقادات إلى القيادة السعودية الجديدة حول سلوكياتها في مسائل مختلفة، ولم تُبد الانفتاح الكافي عليها، فيما كانت تفاوض إيران في شكل حثيث وتعمل على إحياء الاتفاق معها.
حتى إن واشنطن لم تقدّم الدعم الذي كان السعوديون والإماراتيون يتوقعونه في حربهم الشرسة مع إيران في اليمن، خصوصا عندما تعرضت منشآتهم للغارات بالصواريخ والمسيرات.
ويتردد في بعض الأوساط الخليجية أنّ واشنطن تتصرف باستعلاء مع بعض حلفائها الخليجيين، وتعتقد أنهم باقون في «الجيب» مهما تقلبت الظروف، وسيحتاجون دوماً إلى دعمها.
ولكن، في الواقع، يميل الخليجيون إلى المزيد من التفرد والاستقلالية في مقاربة العديد من الملفات الساخنة. فقد رفضوا مشاركة الولايات المتحدة حصارها النفطي لروسيا عند اندلاع الحرب في أوكرانيا. كما تجرأوا على الانفتاح شرقاً، نحو موسكو وبكين، وأبرموا اتفاقاً مع طهران برعاية صينية، وهم يستعدون للتقدم خطوات في مسار التطبيع مع الأسد.
وفي هذه المسألة الأخيرة، حصلت «انزلاقات» عربية عديدة، وعلى مدى سنوات، في اتجاه التطبيع مع نظام الأسد. وكان مقرراً إنهاء القطيعة بين الجامعة العربية ودمشق في قمة الجزائر العام الفائت، ولكن تبين أنّ الخطوة لم تكن ناضجة عربياً، كما أنها لم تلق الترحيب أميركيّاً.
وفي الواقع، جاءت حرب أوكرانيا لتفرض تحولات سياسية عميقة. إذ قلبت الموازين وبدّلت في طبيعة العلاقات والتحالفات بين القوى الإقليمية والدولية، وكان أبرزها استفادة الصين من الانشغال الأميركي والأوروبي لتوسيع دورها، خصوصا في آسيا وإفريقيا. وفي هذا السياق، هي نجحت في دفع المملكة العربية السعودية إلى الانفتاح والتطبيع مع إيران.
هذا الواقع أثار حفيظة الأميركيين الذين أدركوا أن قواعد اللعبة تبدّلت في الشرق الأوسط، وأنهم على وشك فقدان الامتياز الذي تمتعوا به طويلاً، أي احتكار النفوذ على هذه البقعة البالغة الأهمية استراتيجياً. لكن هذا الأمر لم يمنع المملكة من المضي في نهجها الجديد، القائم على الانفتاح وحلحلة الأزمات باستخدام البراغماتية بدلاً من المواجهة. وفي هذا السياق، يأتي انفتاحها على نظام الأسد.
واليوم، يطلق الأميركيون تحذيرات جدية في اتجاه الخليجيين، من مغبّة تطبيع علاقاتهم «مجاناً» مع دمشق. وفي تقدير واشنطن أنّ الأسد سيستفيد من هذا الانفتاح لإنقاذ نفسه ونظامه، لكنه لن يلتزم أي تعهّد يقطعه أمام العرب، لا في مسائل الإصلاح الداخلي ولا في النأي بالنفس عن الصراعات التي تخوضها طهران في المنطقة. وسيبقى مرتبطاً بإيران وروسيا والصين مهما تقلبت الظروف.
لم تنجح الولايات المتحدة في ثَني المملكة وحليفاتها الخليجيات عن التطبيع مع الأسد. لكنها قررت تحريك حجارة اللعبة في مكان آخر. ففقدان «الحماسة» من جانب مصر والأردن والكويت ودول أخرى للانفتاح على الأسد، جاء نتيجة دخول الأميركيين على الخط، وسعيهم إلى فرملة التطبيع بين الأسد والقوى العربية والإقليمية.
وحتى اليوم، لم تتكفّل رسائل واشنطن بوقف مسار التطبيع على الخط السعودي. ولكن، كان لافتاً بيان وزراء الخارجية العرب الذين عقدوا مؤتمرهم أخيراً في جدة، إذ خلا من الكلام على عودة دمشق إلى الجامعة العربية، وفي المقابل استفاضَ في الدعوة إلى تسوية سياسية في سوريا يرعاها العرب، وانتقد الدور الذي تضطلع به إيران والقوى الموالية لها. وهذا الأمر له مغزاه السياسي.
في تقدير المتابعين أن الأميركيين دخلوا على خط التطبيع مع الأسد، وذكّروا الذين يعنيهم الأمر بأنّ العلاقات مع النظام ما زالت خاضعة لضوابط قانون قيصر، ما يعني إمكان شمول المطبّعين بالعقوبات. وهذا التحذير كان أساسياً في التزام العديد من الدول العربية جانب التريث وفرملة مسار الانفتاح.
والسؤال الأساسي الذي يطرحه الأميركيون على حلفائهم العرب هو: هل حصلتم على ضمانات من الأسد بالتزام التعهدات، قبل الدخول في مسار التطبيع؟
طبعاً، ليست هناك ضمانات. لكن العرب يقولون: جرّبنا مواجهة الأسد لسنوات، فلم ننجح في تحصيل حقوق الشعب السوري، وازداد نفوذ إيران. واليوم نجرّب طريقا آخر، ونحاول استيعاب الأسد ودفعه إلى التزام الحلول السياسية من خلال التطبيع، لعل ذلك يقدم فائدة عملانية للسوريين.
وضمناً، هناك عتب عربي على الولايات المتحدة لا يجري البوح به. وثمة من يقول إن القوى الغربية التي ادّعت أنها كانت تقاتل لإسقاط نظام الأسد، هادَنته في غالب الأحيان، ولم تكترث لمعاناة الشعب السوري.
ويقول البعض: كل ما يريده الأميركيون هو أن يحفظوا لأنفسهم الامتياز برعاية التطبيع مع الأسد والتوافق مع طهران، وأن يقطفوا الثمار هم لا الصين ولا روسيا. ولهذه الغاية أيضا، أوعَزوا إلى حليفتهم الإقليمية تركيا بوقف التقارب مع دمشق، بعدما بلغ شوطا متقدما، برعاية موسكو.
إذاً، مسألة التطبيع مع الأسد وصلت إلى نقطة حاسمة، بين إصرار بعض القوى العربية الفاعلة على التطبيع، ومساعي واشنطن لفرملتها باعتماد سياسة «هز العصا». فما هي الحدود التي يمكن أن تبلغها؟