IMLebanon

العقوبات الأميركية: وقائع بحث «حزب الله» عن حلّ (١)

يعترف «حزب الله» بأنّه يواجه أخطاراً غير مسبوقة. وكان أمينه العام السيد حسن نصر الله رأى في أحد خطاباته الاخيرة، أنّ الحزب يواجه مرحلة مخاطر مفتوحة أمنياً وعسكرياً وسياسياً ومالياً، داعياً الى ما يشبه الاستنفار العام.

ورغم شيوع مقولة في الحزب تقول: مرّت علينا ظروف اصعب، وخصوصاً عام ٢٠٠٦، وتجاوزناها. ولكن في المقابل، هناك مَن يرى أنّ الحرب الراهنة الجارية وفق أسلوب الحرب الناعمة ضده، تبقى الاخطر، لأنّ واشنطن وحلفاءها اختاروا لها جبهة ليس لـ«حزب الله» دراية بها، ولم يقم سابقاً بالتحسّب لها.

يعللون ذلك بالقول إنّ ترسانة «حزب الله» تحوي أسلحة وخططاً لمواجهة حرب إسرائيلية برّية وجوية وبحرية تستمر أشهراً، ولا توجد فيها أية أسلحة أو خطط ناجعة ضد حرب ناعمة مالية كالتي تشنّها اميركا وحلفاؤها راهناً عليه.

وبرأيهم فإنّ هذه الحرب تتضمّن مخاطر عديدة، ولكن توجد بينها ثلاثة تهديدات ذات طابع استراتيجي:

اولها، أنها تضعه بمواجهة القطاع المصرفي اللبناني، وهذه جبهة يعلم الحزب انه لو فتحها، لا يملك فيها إلّا الخسائر الكبرى.

ثانيها، تهدد هذه الحرب «حزب الله» بإخراجه من النظام المصرفي اللبناني، وتستتبع هذا الامر نتيجة عملية، ولو لم تكن قانونية، وهي تحويل «حزب الله» وقاعدته الاجتماعية الى «جالية في لبنان» معزولة عن دورته الاقتصادية والمالية.

ثالثها، تستهدف هذه الحرب تصفية مؤسسات الحزب الخدماتية في لبنان، خصوصاً تلك التي تواكب لوجستياً متطلبات حربه في سوريا (مستشفى الرسول الأعظم نموذجاً).

تتداول كواليس بيروت الدبلوماسية ثلاثة أسباب يمكن لها كلها أو لأحدها أن يقف وراء سعي واشنطن لنقل حربها المالية على الحزب من الخارج الى داخل لبنان أيضاً.

النظرية الاولى، تميل موسكو للأخذ بها ومفادها أنّ الادارة الاميركية تريد ممارسة حرب خناق مالي على «حزب الله» لمقايضته بالانسحاب من سوريا.

النظرية الثانية، موجودة في كواليس دول الخليج العربي، وتفيد بأنه اتُخذ قرار دولي بإعادة «حزب الله» الى لبنان «مكسراً» وضعيفاً، لمنعه من تسييل مشاركته العسكرية في سوريا، بثمار سياسية له في لبنان وداخل نظامه السياسي.

النظرية الثالثة، تقول بها دول عربية عدة، وهي تعتقد بأنّ واشنطن تتقصد التركيز على سكك الحزب المالية المستقلة، أي سككه التي تدرّ عليه الاموال من خارج الدعم الايراني له.

تفيد هذه النظرية التي تثير تساؤلات حول صدقيتها من قبل دبلوماسيين غربيين «أنّ عائدات الحزب المالية قسمان؛ الأول تأتيه من ايران ونسبتها ٥٥ بالمئة، والثانية بدأ يحصلها مع اشتداد عوده من أعماله الخاصة ونسبتها ٤٥ بالمئة.

وتستهدف واشنطن هذا النوع الثاني من عائداته لانها تريد القضاء على استقلالية الحزب المالية كمقدمة لإبقائه تابعاً بالكامل لإيران حتى يمكن التفاوض مع طهران على كلّ مستقبله حينما تنضج الظروف.

تلاحظ هذه النظرية أنّ حملة الاستهداف الاميركي لمصادر تمويل «حزب الله» تحيد سكك تمويله من قبل ايران. واللافت في هذا المجال أنّ الخزانة الاميركية لم تدرج ضمن لائحة حظرها إيفاداً لتجفيف مصادر تمويل حزب الله، فرع المصرف الايراني في لبنان (صادرات ايران) رغم انه يقوم بتعويض «حزب الله» عن النقص الذي يعانيه نتيجة إخراجه من النظام المصرفي اللبناني، وذلك عبر إيداع أمواله فيه وفتح حسابات لأشخاص محسوبين عليه.

وبغض النظر عن أيّ تفسير هو الاقرب لحقيقة ما تريده واشنطن من وراء تصعيد حربها المالية الناعمة على «حزب الله»، فإنّ السؤال الاهم الآن داخل الحزب وايضاً داخل بيئة المراجع السياسية اللبنانية، هو كيف يمكن تجاوز هذه الازمة بأقل الخسائر الأمنية والاقتصادية على لبنان؟

في «حزب الله» يوجد نوع من الإرباك حيال كيفية مواجهة الحرب المالية عليه. وبالعمق يدرك الحزب أنّ حربه ليست مع المصارف اللبنانية، بل مع واشنطن التي كانت تمارس منذ سنوات سياسة تجفيف اموال الحزب، ولكنها للمرة الاولى تقرّر أن تشتمل تطبيقاته لبنان ايضاً.

والواقع أنّ هذا التغير هو اكثر ما يثير توجّس الحزب ويدعوه للاستنفار بوجه المعاني غير المسبوقة التي يتضمّنها. في الماضي كانت واشنطن تحاذر مطاردة اموال «حزب الله» او بيئته في المصارف اللبنانية، حرصاً منها على عدم الإضرار بالقطاع المصرفي اللبناني الذي تعتبره خطاً أحمر يساند استقرار لبنان.

هذا يفتح على الأسئلة التالية:

لماذا تغامر واشنطن باستقرار البلد من نافذة وضع الحزب بمواجهة مفتوحة مع قطاع المصارف؟

هل ما يحدث الآن خطوة على طريق أبعد أي فتح الادارة الاميركية لأبواب الصراع مع الحزب عبر استهدافه بأدوات لبنانية محلّية؟

إذا كان الامر كذلك، فما الذي يمنع واشنطن غداً من أن تنقل الصراع بين الحزب والمصارف ليصبح أيضاً صراعاً بينه وبين المؤسسات الامنية اللبنانية وذلك من خلال طرحها فجأة عناوين خلافية مع «حزب الله»، يسنّ بموجبها الكونغرس قوانين تفرض على المؤسسات اللبنانية احترامها، وذلك تحت طائلة فرض العقوبات (!!؟).

حتى الآن تؤكد المعلومات الواردة الى بيروت من واشنطن انه لا يوجد داخل الكونغرس أيّ اتجاه (وحتى بين نوابه المتشددين بفرض عقوبات على الحزب)، يريد سنّ قوانين عقوبات اضافية على «حزب الله»، قد تؤدي للإضرار بالمصارف اللبنانية وبأمن لبنان.

وتصف مصادر في الكونغرس، بحسب معلومات لـ«الجمهورية»، بأنّ مطاردة مصادر حزب الله المالية الدائرة الآن «هي في العمق مجرد استتباع تطويري لقوانين اميركية قديمة» ما الحلّ؟؟

هذا السؤال تطرحه بيئات مالية صديقة لـ«حزب الله»، وتعالج فيه معطيات الازمة وسبل تجاوزها:

اولاً- تعترف هذه الأوساط بأنه حتى لو أراد أيّ مصرف لبناني تأييد وجهة نظر «حزب الله» الرافضة للمضي بتطبيق القوانين الاميركية، فإنه لن يكون بمقدوره فعل شيء، لأنّ واشنطن قادرة على إقفاله بذريعة أنه خالف القوانين الاميركية.

بكلام آخر فإنّ دعوة المصارف لاتّباع «سياسة مقاومة نقدية» ضدّ أميركا تحت ضغط الشارع أو غيره، لن تؤدّي الى شيء، وستبدو أشبه بدعوة القطاع المصرفي لممارسة «مقاومة استشهادية» مع نتيجة صفر جدوى.

أضف أنّ هذا المنطق ليس منصفاً للمصارف، إذ إنه حتى داخل «حزب الله» فإنه يتم ردّ هذه الأزمة الى أساس نشأتها التي ساهم نواب الحزب في إنتاجها، وذلك عندما صوّتوا في شهرَي ١١-١٢ من العام الماضي في البرلمان لصالح قوانين حملت عنوان مكافحة تبييض الاموال، وهي تسمح للإدارة الاميركية بالاطلاع على كلّ بيانات المصارف اللبنانية من خلال السماح بإنشاء علاقات مباشرة بين كلّ واحد منها والخزانة الاميركية.

وكان حاكم مصرف لبنان حاول تصحيح هذا الوضع من خلال إيجاد مركز ارتباط يجمع المعلومات من المصارف اللبنانية ويبلغها للاميركيين، لكنّ الادارة الاميركية رفضت ذلك !؟.

السؤال المطروح اليوم على الحزب وحتى من داخله، هو لماذا لم يدعَ حينها لتشكيل «مقاومة تشريعية»، تجنّباً للوصول الى التفكير برفع شعار «مقاومة نقدية» رغم الإدراك العام بأنّ الشعار الاخير ليس مجدياً ولا يمكن تنفيذه.

ثانياً- بنظر المصادر عينها فإنّ امام «حزب الله» حلاً تقنياً وحيداً قد يمكنه من تجاوز أزمته الراهنة او جزء اساسي منها، وقوامه أن يستحدث الحزب نظاماً مصرفياً مشابهاً للذي يعتمده النظام المصرفي السوري المحلي، كالمصرف العقاري السوري مثلاً الذي يقيم شبكة صرافات آلية مصرفية في كلّ مناطق سوريا تتعامل بالليرة السورية من دون العملات الاجنبية، وينظم المصرف عبرها العلاقات بين الدولة والمواطنين على مستوى التسليف ودفع الرواتب (الخ)، وذلك على كلّ الاراضي السورية بما فيها تلك الخاضعة لسلطة المعارضة.

وبنظر هؤلاء يمكن للحزب انشاء مصرف يكون محلياً، ويتداول بالليرة اللبنانية او أية عملات لا تجرى عليها العقوبات الاميركية، وأن تكون لهذا المصرف شبكة صرافات آلية بالليرة اللبنانية في كلّ المناطق اللبنانية. وبمقدور هذا المصرف حلّ مشكلة دفع الرواتب وفتح الحسابات بالليرة اللبنانية لعناصر الحزب وبيئته عبر شبكة صرافاته الآلية.

تجدر الاشارة إلى أنّ بنك صادرات إيران يوفر جزءاً من هذا الحل لـ»حزب الله»، لكنّ المصرف الآنف لا يملك إلّا فرعاً واحداً في لبنان وشبكة صرافاته الآلية محدودة، كما أنه لا يحق له إصدار بطاقات تعامل مع الصراف الآلي محلية بل دولية.

ويظلّ يواجه الحلّ الآنف مشكلة مهمة تتمثل بعدم قدرة هذا المصرف المحلي على تلقي التحويلات من الاغتراب لصالح ذويهم في لبنان، لأنّ مثل هذه التحويلات تصدرها مصارف اجنبية تخضع للقوانين الاميركية. وهنا يمكن للمصرف المركزي اللبناني أن يؤدي دور الوسيط بين المصارف الاجنبية التي تصدر التحويلات والمصرف المحلي اللبناني.

وحتى يصبح هذا الحل ممكناً، يجب أن ينجح «حزب الله» في فرض بعض التعديلات على القوانين التي أقرّها البرلمان اللبناني نهايات العام الماضي، وذلك فقط وحصراً لجهة تعطيل نفاذها على العملة اللبنانية.

يحتاج لبنان بنظر هذه الأوساط الى عقلنة هذه الازمة ونصب طاولة حوار وطني حولها لانتاج حلّ «لا يُحرج «حزب الله» فيُخرجه، ولا يُغضب اميركا فيتضرّر القطاع المصرفي ومصالح لبنان الكبرى».