عام 2022 توفي الفلسطيني الأميركي عمر أسد البالغ من العمر 78 عامًا الذي اعتقلته كتيبة «نيتسح يهودا» التابعة للجيش الإسرائيلي، وذلك نتيجة الضربات التي تلقّاها والنوبة القلبية الناجمة من الإجهاد. وإذ طلبت الولايات المتحدة إجراء تحقيق جنائي في سبب وفاته، ردّ النائب العام العسكري الإسرائيلي على هذا الطلب بإنكار أي ارتباط لأفراد هذه الكتيبة بوفاة أسد. وبعد تسجيل مشاركة جنود هذه الكتيبة في «أعمال عنف» عدة أخرى ضد الفلسطينيين، بدأت وزارة الخارجية الأميركية تحقيقاتها حيال الكتيبة بدءاً من نهاية 2022.
كتيبة «نيتسح يهودا» هي أحدى أكثر الجماعات الإسرائيلية تطرّفاً وإجراماً، وقبل الحرب الحالية على قطاع غزة، كانت تتمركز بنحو أساسي عند الحدود الجنوبية الغربية للقطاع. ومع بدء الحرب في 7 تشرين الاول الماضي، استقرّت الكتيبة في غزة، ومن المرجح أن يتكشّف مستقبلاً المزيد من المشاهد التي تبيّن مدى عنف هذه الجماعة.
حتى أن واشنطن، المشهود لها بسرديات التضليل وتبني المعايير المزدوجة إزاء انتهاكات حقوق الإنسان، وبدعمها الكامل لإسرائيل في مساعيها لإبادة سكان غزة، اتخذت قرارًا بفرض عقوبات على تلك الجماعة بسبب ارتكاباتها.
وفي مؤتمر وزارة الخارجية السنوي حول وضع حقوق الإنسان في العالم، رد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على اتهام بلاده بـ»ازدواجية المعايير» فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، قائلاً: «نحن نحتفظ بنفس المعايير والمنظور بشأن حقوق الإنسان، لذلك لا يهم ما إذا كان البلد المعني هو عدو أو صديق، منافس أو حليف». وبناء على ذلك أعلن بلينكن أن «واشنطن ستحقّق في الاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان من جانب الجيش الإسرائيلي وانتهاكات قوانين استخدام الأسلحة الأميركية».
كذلك أعلنت الخارجية الأميركية أنها ستتخذ قرارات بفرض عقوبات على إحدى وحدات الجيش الإسرائيلي استناداً إلى «قانون ليهي». وللعلم فإنّ هذا القانون، الذي وُضعه السيناتور باتريك ليهي في أواخر التسعينات، يمنع تقديم المساعدة العسكرية للأفراد أو الوحدات الأمنية التي ترتكب انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
وقد رَد القادة الإسرائيليون بغضب على هذا الإجراء. ووصف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فرض العقوبات على هذه الوحدة بأنه «ذروة الفراغ واللا أخلاقية»، وذلك في وقت تواصل القوات الإسرائيلية حربها في قطاع غزة ضد حركة «حماس». وتوعّد في كلمة ضَمّنها تهديدات مباشرة بـ»الدفاع بقوة عن جيشنا وجنودنا. وإذا كان أحد يعتقد أنه يمكنه فرض عقوبات على وحدة في الجيش الإسرائيلي، فسأقاتله بكل قوتي».
وعلى رغم من تأكيد واشنطن احترام المعايير الإنسانية نفسها تجاه جميع الدول، فقد اتخذت قرارًا بتعليق فرض العقوبات على الكتيبة الإسرائيلية التي قتلت مواطنًا أميركيًا. وفي الوقت نفسه، صادقَ الكونغرس الأميركي على تقديم مساعدات بقيمة 26 مليار دولار لإسرائيل. وأشارت صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى أنّ إدارة بايدن تقوم حاليًا بمراجعة اتفاقية تسليح جديدة، يتم بموجبها بيع أكثر من مليار دولار من الأسلحة إلى إسرائيل. هذه الأحداث المتزامنة توحي بأنّ الولايات المتحدة، على رغم من البيانات الرسمية، لا تنوي استخدام السلطة التي تمتلكها في مجال تقديم الأسلحة للتأثير على سلوك إسرائيل.
كذلك لم يُظهر رؤساء الولايات المتحدة الأميركية المتعاقبون رغبة في استخدام سلطتهم ونفوذهم ضد إسرائيل، بل على العكس، عملوا على تخفيف الضغوط التي تمارسها المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ضدها. وعلى سبيل المثال، وعلى رغم من إدانة الولايات المتحدة لبناء المستوطنات الإسرائيلية واعتبارها عقبة أمام ما تسمّيها «عملية السلام»، إلا أنها تتجنّب تصنيفها مستوطنات غير قانونية منعاً لتعريض إسرائيل لعقوبات دولية.
وبالمثل، لم تتخذ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أي إجراء فعّال للضغط على إسرائيل. فعلى سبيل المثال، كان في إمكان هذه الإدارة الإستناد إلى «قانون ليهي» الذي يمنع استخدام الأسلحة الأميركية في حالات انتهاكات حقوق الإنسان. كذلك كان في إمكانها استخدام سلطتها لوقف التمويل الذي تقدمه ما تسمّى «المؤسسات الخيرية» إلى المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية المحتلة. وكان في إمكانها ايضاً تهديد إسرائيل بعدم الدفاع عنها في المنتديات الدولية مثل مجلس الأمن الدولي أو المحكمة الجنائية الدولية.
ولذلك، فإنّ تحالف واشنطن مع إسرائيل لم يؤدِّ إلى إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، بل على العكس من ذلك، تسبّب بزيادة الاضطرابات. ولم تدفع واشنطن بجدية نحو تغيير سياسات الاحتلال الإجرامية تجاه الشعب الفلسطيني. ووسط هذا المناخ وفي غياب الإرادة والضغوط الأميركية الفعّالة، لن يكون لقادة الكيان الإسرائيلي أيّ دافع للانخراط في الحلول الجدية للقضية الفلسطينية، كإخلاء المستوطنات، ووضع الأراضي تحت سيادة الدولة الفلسطينية.
كذلك فإنّ عدم مواجهة إدارة بايدن لإسرائيل سيكون له نتائج سلبية على الأولى، تتمثّل في زيادة التوترات وبالتأكيد إعادة إغراق واشنطن في مستنقع الشرق الأوسط. فقبل الحرب الحالية في غزة، كانت سياستها في المنطقة مبنية على ما يُسمّى «الإتفاق الإبراهيمي» و»حلّ الدولتين» بهدف دمج الكيان الإسرائيلي بالمنطقة والتخفيف من التكاليف والمتاعب التي تتحملها واشنطن لحمايته، وكانت الولايات المتحدة تحافظ على نفوذها السياسي في الشرق الأوسط من دون حاجة للوجود العسكري. لكنّ حرب غزة أظهرت أنّ ما يُسمّى «اتفاقات السلام» ليست الحل المنشود، وأنه من دون ممارسة الضغوط على القيادات الإسرائيلية والركون إلى خطوات عملية تُعيد للفلسطينيين حقوقهم بأرضهم ومقدساتهم، لن يكون هناك استقرار في المنطقة.