ربما كان المرء ليتوقع أن يقفز الرئيس ترمب في الهواء فرحاً بتحرير الرقة الأسبوع الماضي من قبضة تنظيم داعش. وبفضل القوة الجوية الأميركية، والأكراد والسوريين الوطنيين وقوات أميركية من العمليات الخاصة، وضعت نهاية هذه «الخلافة» المزعومة قصيرة العمر.
ومع ذلك، اختار الرئيس عدم استغلال هذا الانتصار، واكتفى البيت الأبيض بإصدار بيان من خمس فقرات. وتركز جل الاهتمام الأسبوع الماضي على محادثة هاتفية أجراها الرئيس مع والدة أحد الجنود الذين قتلوا في النيجر.
إذن، كيف يمكن تفسير رد الفعل المتحفظ هذا – خصوصاً في وقت يسعى فيه البيت الأبيض بدأب لتحقيق انتصارات تحسب له؟
تكمن المعضلة هنا في أن النجاح يثير تحديات جديدة. في هذه الحالة على وجه التحديد، فإن اندحار «داعش» يعيد فتح صدوع قديمة داخل الشرق الأوسط تجمدت من أجل إنزال الهزيمة بعدو يتفق العالم على كراهيته. ومثلما أشرت عام 2015 أثناء وجودي بالعراق، فإنه حتى الولايات المتحدة والعراق كان باستطاعتهما التعاون معاً ضمنياً في مواجهة عدو يقيم أسواقاً للنخاسة ويحاول ارتكاب مذابح جماعية.
اليوم، تلاشت جميع المشاعر الإيجابية التي سادت وقت مواجهة «داعش»، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يجري في شمال العراق، حيث تقدمت قوات الأمن العراقية نحو نقاط تمركز لقوات «البيشمركة» الكردية خلال الأسبوع الماضي، في أعقاب إعادة سيطرتها على كركوك، المدينة الغنية بالنفط التي تولت قوات كردية حمايتها من «داعش» عام 2014. وتبقى هناك أمثلة صغيرة أيضاً. داخل الرقة، تشير تقارير إلى أن ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية شرعت في إنزال الأعلام السورية الثورية التي يفضلها الأعضاء العرب في قوى المعارضة التي حررت المدينة، تبعاً لما ذكرته جينيفر كافاريلا، المحللة البارزة لدى «معهد دراسات الحرب».
من ناحية أخرى، ثمة توترات جديدة بين الولايات المتحدة وإيران داخل العراق. هذا الأسبوع، تعرض وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون لتوبيخ علني نادر الحدوث من جانب مكتب رئيس الوزراء العراق، بعد دعوته الميليشيات المدعومة من إيران التي تقاتل «داعش» للعودة إلى ديارها الآن بعد إلحاق الهزيمة بـ«داعش». جدير بالذكر أنه منذ عامين فقط، وفرت الولايات المتحدة دعماً جوياً لعمليات هجوم برية قادتها هذه الميليشيات خلال قتال «داعش».
من ناحيتها، أخبرتني كافاريلا أن واحدة من المشكلات التي تعانيها الاستراتيجية الأميركية المتبعة ضد «داعش» أنها تكاد تكون عسكرية تماماً، ذلك أنها تفتقر إلى العنصر السياسي الضروري لضمان الانتصار في أوقات السلم. وقالت: «ما لم نتناوله التحديات المؤسساتية والاجتماعية الأوسع التي مكنت من صعود (داعش) من البداية، وتؤجج حالياً الأزمة المتفاقمة داخل إقليم كردستان العراق. ويكمن النموذج الأبرز لذلك في تجاهلنا وغضنا الطرف عن اختراق إيران وزارتي الداخلية والدفاع العراقيتين».
في الكثير من جوانبها، تبدو تلك قصة قديمة، فقد سبق أن أثار الاختراق الإيراني هاتين المؤسستين سخط جورج بوش، قبل أن يقرر «زيادة أعداد» القوات في العراق وشن حملة مكافحة للتمرد تحت قيادة الجنرال ديفيد بتريوس. ومن بين مسؤولي البيت الأبيض الذين حثوا على اتباع هذه الاستراتيجية بريت مكغورك الدبلوماسي الأميركي الذي عكف على عقد تحالفات في مواجهة «داعش». في ذلك الوقت، طاردت الولايات المتحدة الإرهابيين السنة والشيعة داخل العراق، واستهدفت أي مجموعات هددت الحكومة المنتخبة. واعتمد جزء كبير من هذه الاستراتيجية على العلاقة الوثيقة بين بوش ورئيس الوزراء العراقي آنذاك، نوري المالكي.
في نهاية الأمر، رضخ المالكي، إلى الطائفية. في ظل رئاسة أوباما، شن حملة لا هوادة فيها ضد جماعات سنية في غرب البلاد، الأمر الذي مهد لظهور «داعش» لاحقاً. ورأى المالكي أنه إذا كان أوباما عاقداً العزم على الرحيل، فإن السبيل الأمثل أمامه عقد سلام مع إيران. وبعد أن بدأ «داعش» في السيطرة على مساحات من الأرض وانطلق عام 2014، تخلى أوباما عن سياسة عدم التدخل التي سبق أن انتهجها. وأصدر أوامره إلى مكغورك للسعي لإيجاد بديل ذلك الصيف. وأصبح هذا البديل حيدر العبادي، الذي تولى منصب رئيس الوزراء في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام. من جانبهم، دعم الإيرانيون المالكي في ذلك الصراع على السلطة، لكنه هزم في نهاية الأمر.
اليوم، يجد العبادي نفسه من جديد عند مفترق طرق، فقد تقدمت قواته إلى داخل مناطق كردية رغم اعتراض الحكومة الأميركية. ويهدد الوضع الحالي باندلاع مواجهة بين قوتين عراقيتين، كلتاهما مدعومة ويجري تسليحها من قبل واشنطن، رغم أنهما منذ شهر واحد فقط كانتا تتعاونان في مواجهة «داعش».
وبذلك يتضح أنه دون عدو مشترك يوحد صفوفهم، فإن حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط سيعاودون قتال بعضهم بعضاً.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»