تعيش المنطقة مجدّداً أجواء خلط أوراق بشكل أكثر تعقيداً، مع بدء العدّ التنازلي لتوقيع الإتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى.
تؤكد مصادر أميركية عدة أنّ من شأن هذا «الإنجاز» وضع حدٍّ فاصل بين حقبتين من النزاع متعدّد الأوجه، لكنّها تبدي تشاؤمها من أن يشكّل هذا الإتفاق بداية اصطفاف قد يكون أشدّ وطأة وخطورة على الخلاف الأعمق الدائر بين مكوّناتها.
وتعتبر المصادر أنّ نجاح الإدارة الأميركية في «تحييد» الملف النووي الإيراني، وإخراجه من دائرة الملفات التي تشهد نزاعاً، من شأنه فتح الباب على مصراعيه أمام المقايضة والتسويات، لتنصرف بعدها الاطراف المعنية الى تكريس حصصها ومواقعها السياسية والإقليمية في المنطقة.
ولا تخفي تلك المصادر خشيتها من إحساس فائض القوة الذي يتملّك إيران تحديداً، بعد «النجاحات» التي حقّقتها في مسيرتها الإقليمية، الامر الذي قد يضعها في مواجهة تحالفات أشدّ وأقوى ممّا واجهته حتى اليوم، ما لم تستدرك موضوعياً وعقلانياً ما هو ممكن ومتاح لها في تحصين موقعها الإقليمي.
تقول أوساط عسكرية أميركية «إنّ الإندفاعة الإيرانية التي شهدتها ساحات عدة، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أخيراً، بلغَت أقصى مداها في استعراض القوة، من دون أن تنجح حتى الساعة في تغيير ميزان القوى القائم، أو في فرض شروطها السياسية على الآخرين.
فطهران نجَحت في أن تكون عنصر تعطيل سلبي، فيما تصاعد كلفة الإستنزاف قد يسرّع في تآكل قدراتها المادية واللوجستية على تمويل الحروب التي تخوضها في تلك الساحات».
هكذا يُنظر الى الحرب المندلعة في جنوب سوريا وشمالها، في تكرارٍ ممجوج لمقولة الحسم المستمرة منذ أربع سنوات، فيما الآلة العسكرية الإيرانية تستهدف حتى الساعة تشكيلات المعارضة من غير «داعش»، ما يكشف طبيعة الأهداف السياسية والاستراتيجية لطهران جراء اندفاعها في سوريا».
وتؤكد تلك الأوساط «أنّ حسابات طهران الإقليمية تأخذ في الحسبان علاقتها مع اسرائيل، وأنّ واشنطن تبلغت رسائل إيرانية عبر قنوات عدة عن عدم المساس بـ«الستاتيكو» القائم على حدودها الشمالية الممتدة من الجولان الى جنوب لبنان».
فسوء الفهم بين الطرفين عواقبه قد تكون خطيرة، علماً أنّ طهران تدرك أنّ أيّ خطوة ناقصة تجاه اسرائيل، المنهمكة قيادتها في إعادة ترتيب
أوضاعها الداخلية على وقع الخلاف مع واشنطن على ملفات عدة، وفي مقدّمها الملف النووي، قد تشكل حجة مناسبة لها لإعادة خلط الأوراق هناك، ما قد يعرّض إيران لخسائر جانبية لا تعوّض ولا ترغبها.
وفيما كشفت وزارة الدفاع الأميركية أمس الاول عن بدء اختيار 1200 مقاتل من المعارضة السورية من أصل 5000 سيبدأ تدريبهم الشهر المقبل في معسكرات تركية وأردنية وسعودية وقطرية، لمقاتلة «داعش» وليس النظام السوري في المرحلة المقبلة، تقول تلك الأوساط «إنها رسالة بالغة الوضوح من أنّ الشراكة المقبلة لإعادة رسم مستقبل سوريا، لن تُقرّرها طهران وحدها، ومن غير الممكن أن تنتهي الحرب ضدّ «داعش»، ليتمّ تسليم البلد الى النظام السابق بكامل وجوهه ورموزه».
تشديد الإدارة الأميركية على الحلّ السياسي سواء في سوريا أو في العراق، على رغم الحرب الضروس الدائرة هناك ضدّ «داعش»، يشير إلى أنّ الغلبة الميدانية لن تكون كافية لتقرير مصيرهما. فمصير العراق لن يتقرّر في معزل عن مكوّنه السنّي، وإيران لا يمكنها تطويع هذا البلد من دون الإتفاق معه.
هكذا يسير الخطّ البياني أيضاً في ليبيا، حيث دخلت الحرب ضدّ التنظيمات الإرهابية فيه وفي مقدمها «داعش» مرحلة جديدة، مع قيام القوات المصرية بعملية كوماندوس «مجازة» وناجحة في درنة.
وفيما أوضحت واشنطن أنّ الإجتياح العسكري الكامل لليبيا لن يكون حلّاً للازمة، تمّ تأجيل صدور قرار دولي كانت تسعى اليه مصر في مجلس الأمن، يتعامل مع قسم واحد من مكوّناته السياسية. فالقوى الرافضة للإرهاب موجودة في كلّ ليبيا، وهي قادرة على إدارة النزاع مع القوى المتطرّفة، شرط دعمها واحتضانها إقليمياً ودولياً معاً.
وتتوقع تلك الأوساط أخيراً أن تحمل الأسابيع المقبلة معطيات كثيرة ينبغي التعامل معها بحذر تام، خوفاً من الخطوات الناقصة.