IMLebanon

بين محرر «نيويورك تايمز» وفتاة «تيك توك»

 

تتسيد ثقافتا الصحوات والإلغاء صناعة المشهد العام في أميركا؛ ومنها وعبرها في العالم.

 

الصحويون، المتحدرون في الغالب من خلفيات ثقافية يسارية، يعيدون قراءة التاريخ من موقع التكفير عن الذنوب. المشهد الأبرز هو مشهد ركوع البيض أمام السود في أميركا طلباً للغفران (!) بعد مقتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد على يد شرطي أبيض بوحشية غير مسبوقة. الصحويون بهذا المعنى يقرون بمسؤوليتهم المعنوية التاريخية عن أخطاء ارتكبت قبل ولادتهم بمئات السنين، وينخرطون في دوامة تبدأ بما يشبه «صلاة اعتراف» ولا تنتهي بالتدمير الجنوني لتماثيل ونُصب تجسد شخصيات في التاريخ الأميركي اختلطت سيرها بما هو مدعاة إدانة حاسمة اليوم، كتجارة العبيد على وجه الخصوص.

 

أما ثقافة الإلغاء فتنهض على انتحال «التقدميين» مُثلاً عُليا حول المساواة والحقوق المدنية، لخدمة آيديولوجيا ثورية جديدة تسعى لتنميط الخطاب السياسي والثقافي والاجتماعي وتوحيده، لا على الأسس النسبية للخطأ والصواب؛ بل على أسس أخلاقية سامية مطلقة تزين الأفكار بميزان الخير والشر.

 

وقد وجدت دوائر الأكاديميا والصحافة ومراكز الأبحاث نفسها تسقط في هذا الجحيم السحيق لثقافة الغضب والتفوق الأخلاقي، مدفوعة إلى حتفها بسبب هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وطغيان صحافة ما تسمى العدالة الاجتماعية وإعلام الحقيقة، مقابل الإعلام الموضوعي، وهو إعلام بات يشبه نظاماً صارماً للمراقبة وشرطة ثقافية وأخلاقية تتحرك بآليات الأحكام المبرمة والسريعة والوصم والتشهير، لا بآلية جولات النقاش وترسانات الحجج.

 

في هذا السياق؛ شنت قبل أسابيع حملة شعواء على محرر الرأي في صحيفة «نيويورك تايمز» جيمس بينيت أدت لاستقالته، لأنه تجرأ على نشر مقال للسيناتور الجمهوري توم كوتون دافع فيه عن استخدام الجيش قمع أعمال الشغب التي نشأت عن مقتل جورج فلويد.

 

ذنب بينيت أنه أتاح لسيناتور ولاية أركانسو أن يعبر عن رأيه ببنية المظاهرات بعد مقتل فلويد وأن يشير على وجه الخصوص إلى الدور الذي تلعبه مجموعات يسارية متطرفة في خلق مشهديات العنف والحرق والتكسير والفوضى، معروفة باسم «أنتيفا». لم يُعَدّ نشر المقال خروجاً عن العقيدة الليبرالية للصحيفة فحسب؛ بل بالغ زملاء بينيت في حسبان أن نشره المقال يشكل تعريضاً لحياة زملائه الصحافيين السود للخطر الذين قد ترديهم رصاصات التمييز العنصري من شرطي أبيض، في تحريف كامل لوقائع ما يحصل اليوم في أميركا. فالشرطة ليست بيضاء، وهي لا تطارد السود بصفتهم سوداً رغم الحادث الشائن الذي أودى بحياة فلويد.

 

دعك من أن زملاء بينيت تجاهلوا عمداً كثيراً من الأدلة التي تثبت تورط «أنتيفا» في أعمال الشغب كما أشار السيناتور كوتون.

 

ومثل بينيت؛ تعرض المفكر والأكاديمي الأبرز اليوم في أميركا ستيفن بينكر لحملة تسعى لطرده من «الجمعية اللغوية الأميركية» بناء على مواقف له في السجال حول العنصرية في أميركا، عُدت من قبل موقعين على عريضة تطالب بطرده متهاونة مع العنصرية أو أنها تقلل من مظالم السود!

 

على عكس بينيت الذي أرغم على الاستقالة، كسب بينكر جولته في مواجهة ثقافة الإلغاء وحافظ على عضويته في الجمعية، من دون أن يكون انتصاره سبباً لكثير من الطمأنينة. فالمعركة الثقافية في أوج استعارها، وباتت بعض حلقاتها يتحول إلى نوبات هيستيريا يحكمها انحسار خطير في التفكير النقدي ويطغى عليها مقدار أخطر من شعور أصحابها بالوضوح الأخلاقي الصارم الذي لا يترك مجالاً لفهم جدلي للمواقف والوقائع ضمن منظور زمني أو حدثي أو مكاني.

 

مثل هذا الوضوح الأخلاقي والاندفاع هو ما يتيح لصبية متخرجة في جامعة هارفارد، أي الجامعة نفسها التي شهدت المعركة مع بينكر، أن تنشر مقطع فيديو هيستيرياً عبر منصة «تيك توك» تهدد فيه بطعن أي شخص يستخدم عبارة «كل الحياة مهمة» بدل «حياة السود مهمة».

 

فبحسبها؛ يعد إدغام معاناة السود بمعاناة إنسانية أعمّ، مصمماً للتقليل من حجم جراحهم التاريخية والضخمة بالقياس إلى جراح الآخرين الأبسط والتي تشبه «الخرمشات».

 

وقد حظيت الفتاة بمقدار مذهل من التعاطف بعد أن رفضت شركة «ديلويت» توظيفها بسبب الفيديو، وباتت الشركة في موقع المدان أخلاقياً بسبب حجم الظلم الذي ألحقته بفتاة كل ذنبها «أنها مستعدة لقتل كل من يخالفها الرأي»!!!

 

ما تنذر به هذه الوقائع المتفرقة هو انهيار الحد الفاصل بين الرأي والجريمة، بين العام والخاص، بين المذنب والبريء. فيحاسَب كل من ستيفن بينكر ومحرر «نيويورك تايمز» لأنهما يمتلكان رأياً أو حكماً على موضوع معين، من قبل الجمهور نفسه الذي يتعاطف مع فتاة «تيك توك»، والساعي علناً بالضغط والمثابرة والصراخ، إلى تبني تعريف ضيق جداً لما يمكن تصنيفه بالرأي «المقبول» قبل أن يصير الرأي جريمة تستوجب المحاسبة والتشهير.

 

حجم الأزمة يكشفها الصراع بين الليبراليين أنفسهم. فمحطة «سي إن إن» مثلاً لم تجد حرجاً في الانخراط بنشاط سياسي مباشر ضد موقع «فيسبوك» يقوم على التشهير بالشركات التي لم تسحب بعد إعلاناتها من الموقع، بسبب إصرار الرئيس التنفيذي للموقع مارك زوكربيرغ على رفض الرقابة على الخطاب المصنف بأنه يثير القلاقل.

 

ففيما يتمسك زوكربيرغ بحرية تناقل الأفكار، تطالبه «سي إن إن» بأن يكون وصياً على ما يندرج وما لا يندرج في خانة الخطاب المقبول.

 

إنها لحظة قاسية لتضعضع البنيان الليبرالي القائم على التبادل الحر للمعلومات والأفكار والمواقف والحجج، ومحاولة لأخذه، باسم الليبرالية والحرية، نحو مساحات معتمة من الرقابة التي تقوم بها هياكل تأديبية وبيروقراطية تعمل على تقييد مقيت للحريات، بأبعاد أصولية طهرانية. هكذا جرى مثلاً القفز من ثقافة «metoo#»، أي الحملة المعادية للاغتصاب، إلى إحداث تشويش هائل على واحد من منجزات الليبرالية الاجتماعية في الغرب وهو الحرية الجنسية، بحيث بات من الصعب التفريق بين ما هو غزل شرعي يقع في صلب الحريات الجنسية، وما هو تحرش يطاله القانون!!

 

من هنا جاءت «الرسالة» التي نشرتها مجلة «هاربر» هذا الأسبوع، حيث حذر 153 كاتباً ومفكراً من أن ثقافة الإلغاء واسعة النطاق تدمر التبادل الحر للأفكار، وهو ما ردت عليه مجموعة أخرى برسالة مماثلة في موقع «ذي أوبجيكتيف» تقول إن الحرس القديم «يخشى ارتفاع منسوب التعدد في المشهد الثقافي»!

 

هذه معركة ثقافية سياسية اجتماعية تتبلور محاورها بشراسة وستزداد حدة. وهي معركة تعني المثقف والناشط العربي مهما بدا مضمونها في اللحظة الراهنة يلبس لبوس الترف، إلا إنه ليس كذلك.

 

للبحث صلة.