في الظاهر، يبدو المشهد منسجماً: لبنان أقرَّ خطته المالية واستدعى صندوق النقد الدولي للمساعدة. وهكذا، صار طبيعياً أن يطالب الفرنسيين بتحريك مساعدات «سيدر». وفي الطريق، لا بأس من مغازلة أغنياء العرب: «مشتاقون لكم… ولملياراتكم»! هل هذا هو المشهد فعلاً أم انّ «فولكلور المساعدات» اللبناني بات «موضة قديمة»؟
هناك علاقة معقّدة بين الأميركيين والفرنسيين، في ما يتعلق بـ«إنقاذ لبنان». فيها التوافق والتجانس وتلاقي المصالح، وفيها أيضاً التباين والتنافس وتضارب المصالح.
عندما انطلقت انتفاضة 17 تشرين الأول وطالبت بتغيير الطبقة السياسية وإسقاط سلطتها، وقف الأميركيون بقوة إلى جانب المنتفضين. أمّا الفرنسيون فأيَّدوا مطالب الانتفاضة، لكنهم حرصوا على موقف مَرن مع القوى السياسية، خصوصاً أنّ حليفهم الرئيس سعد الحريري كان في واجهة السلطة.
يعتبر الفرنسيون أنّ التغيير السياسي أو السلطوي في لبنان يجب أن يكون عملية أكثر مرونة ويستغرق وقتاً إضافياً، بهدف إنضاج الظروف المحلية والإقليمية والدولية. وأمّا الذهاب إلى هذا الخيار قسراً فقد يصعّب الوضع. وفيما الاستقرار الاقتصادي يترنَّح، قد يطاحُ الاستقرارُ السياسي وربما الأمني أيضاً.
الأميركيون يرون أنّ هذا الخيار تمّت تجربته طويلاً، حتى خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب. وفي أزمة تشرين الثاني 2017، دعمت واشنطن خيار إنهاء أزمة الاستقالة الشهيرة وعودة الحريري إلى السلطة ضمن تسوية تقضي بتغيير السلوك السياسي.
وبالنسبة إليهم، عمق المشكلة في لبنان سياسي، ويتمثّل بـ«حزب الله». وليس واقعياً إطلاق الوعود بالإصلاح ما دامت السلطة واقعة تحت نفوذه. ولذلك، فشلت محاولة الحريري تغيير نهج الحكومة. وفي رأيهم أنّ «الحزب» سخَّر كل طاقات الدولة لتمويل نفسه، على رغم تصاعد العقوبات عليه. واستنزاف الدولة قاد إلى انهيارها.
إذاً، يرى الأميركيون أنّ من العبث البحث عن حلول مالية واقتصادية للبنان، ما لم يفكّ «حزب الله» ارتباطه بالدولة ومؤسساتها وأجهزتها والقطاع المصرفي. لكنّ إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، على رغم مآخذها على سلوك «الحزب»، تفضِّل فكّ ارتباط الأزمة اللبنانية بالصراع بين الولايات المتحدة وإيران.
وعبَّر وزير المال الفرنسي برونو لو مير، في شباط الفائت، عن تفاوت النظرة مع واشنطن بوضوح إذ قال: «لا نريد الخلط بين أمرين: تعافي لبنان اقتصادياً وصراع واشنطن مع طهران».
وهذا التباين هو الذي عطّل اللجنة الثلاثية الأميركية – الفرنسية – البريطانية، على مستوى مدراء شؤون الشرق الأوسط في وزارات الخارجية، في الدول الثلاث، عندما حاولت معالجة الأزمة خلال انتفاضة تشرين. وقد فشلت بريطانيا في تقديم «حل وسط» بين الشريكين الآخرين.
وأساساً، عندما سارَع الفرنسيون إلى رعاية مؤتمر «سيدر»، في ربيع 2018، كانوا يرغبون في إعطاء تركيبة 2016 جرعة دعمٍ لتتمكن من العيش، بعدما بدأت تنكشف معالم الانهيار المالي والاقتصادي، وتنذر بانهيار سياسي وربما أمني أيضاً. وقد ساهمت العقوبات والضغوط الأميركية في تظهير ذلك سريعاً، بدعمٍ واضح من الحلفاء العرب الأغنياء.
وللتذكير، عشيّة اندلاع انتفاضة تشرين، كان الحريري يقفز مكوكيّاً بين باريس وبيروت والخليج محاولاً استدرار الدعم المالي الطارئ. لكن مفعول «كلمة السرّ» الأميركية كان واضحاً: لا دولار واحداً لسلطة يسيطر عليها «حزب الله».
والجميع يذكر الصدمة التي تلقّاها الحريري، بعد زيارته «الفضفاضة» للإمارات العربية المتحدة آنذاك. فخلالها، تمّ الترويج في بيروت لوديعة إماراتية بنصف مليار دولار أو مليار، سترسل إلى مصرف لبنان. ولم يُضطر الإماراتيون إلى إصدار نفي للخبر، بل قام الحريري نفسه بذلك. وتبيَّن أن لا مجال للتسلُّل من وراء ظهر واشنطن.
اليوم، بهذه الروحية، يتعاطى الأطراف أنفسهم:
1 – الحكومة اللبنانية التي تُجَسد نفوذ القوى السياسية، ولا سيما «حزب الله»، تتهرَّب من الإصلاح الحقيقي. وفيما لم توقف فاسداً واحداً، خرجت بخطة مالية تدفّع الناس من ودائعهم ورواتبهم ثمن الفساد، لأنهم الحلقة الأضعف، وتخدع المانحين مجدداً بوعود الإصلاح، كما في كل مؤتمرات باريس السابقة، لاستجلاب أموال تنعش طبقة السلطة لأعوام أخرى.
2 – ما تزال باريس تمارس دور «الأمّ الحنون». ولكن، الأمّ التي تمارس تربية خاطئة لولدٍ «مدلوع». هو يبتزّها كل يوم بأنه سيؤذي نفسه إذا لم يحصل على مالٍ ينفقه على الفساد، فتتجاوب خوفاً عليه. واليوم، وصل الولد إلى أذيّة نفسه فعلاً… من شدّة الدلع.
3 – يرفض الأميركيون العودة إلى «الممارسة السابقة». أي، لا دولارات للبنان ما لم يلتزم الإصلاح. فليس وارداً إرسال المال إلى الدولة إذا كانت أقنيتها تودي به إلى «حزب الله».
واضح اليوم أنّ هذا ما يقوله صندوق النقد للبنان. فهو يطرح شكوكاً حول الخطة ويطالب ببرنامج واضح وملموس. وفي المقابل تحاول فرنسا تحريك مساعدات «سيدر»، وهي تتسلّح بأنّ لبنان بدأ يسلك طريق الإصلاح، وأنه يفاوض صندوق النقد.
يريد الفرنسيون الحفاظ على موطئ قدمهم التاريخي في لبنان، بأي ثمن. لكنهم يعرفون كما سائر الأوروبيين والعرب، أن لا مصلحة لهم ولا قدرة، على معاكسة واشنطن.
إنه «اشتباك ناعم» بين واشنطن وباريس في لبنان. ولن يتأذى به أي من الطرفين. لكنّ النازل صوب قعر الهاوية هو لبنان، وتحديداً الدولة والناس، لأنّ طبقة السلطة تبدو جاهزة للاصطياد في الخراب، كما فعلت دائماً.