IMLebanon

لأميركا انتخاباتها ولنا مصالحنا معها

 

لم يسبق لانتخابات أميركية أن أخذت هذا المنحى غير المألوف في الدول الديمقراطية الغربية، أو استقطبت هذا الحيّز من الاهتمام الداخلي والخارجي مثل انتخابات عام 2020. فالاضطراب الداخلي الحاصل والسجال غير المسبوق، وصلا إلى حدّ التشكيك في نزاهة الانتخابات وشرعية المؤسسات، كما في عملية الانتقال السلس للسلطة. كل ذلك دفع إلى تردد عدد كبير من الدول في تهنئة الرئيس المنتخب جو بايدن، وفي مقدمتها روسيا، حيث يتابع الرئيس فلاديمير بوتين بدقة مسار عمليات فرز الأصوات ونتائجها، وتليها الصين التي تأخرت نحو أسبوع للتهنئة، ما يشي بأنهما غير متحمستين لإدارة ديمقراطية تخلف دونالد ترمب.

لا ينكر أحد أنَّ هذه الفوضى أظهرت عيوباً في نظام الانتخابات وإجراءاتها وزعزعت الممارسة الديمقراطية عامة في أقوى دولة في العالم، لا سيما على مستوى النخب الحاكمة، وبات الجدل السياسي عبر وسائل إعلامها يذكّر المتابع بما يعرفه أو يعيشه في دول العالم الثالث والدول التي لم تعرف حياة ديمقراطية.

هل يعني ذلك أن أميركا ستدخل نفق الاضطرابات وعدم الاستقرار أو النزاعات الأهلية؟ الجواب هو لا، لأنه مهما بلغ التجديف بالنموذج الديمقراطي الأميركي يبقى أقوى مما نظن، وقادراً على مداواة نفسه، وهو ما نشهده اليوم عبر مسار إعادة فرز الأصوات.

أظهرت أغلب التحليلات الديموغرافية والعرقية والإثنية للأصوات أن ما حكي عن تفكك في المجتمع الأميركي، وحصول انقسام عرقي بين البيض والسود أو إثني مع المهاجرين، ليس صحيحاً، وأن الاصطفاف الحاصل هو تباين سياسي – حزبي لا أكثر ولا أقل، وقد تكون شخصية الرئيس ترمب وممارساته الخارجة عن التقليد أظهرت حدته بشكل أكبر. وما حكي عن حرب أهلية أقرب إلى مزحة، فالاحتجاجات كما الاحتفالات كانت سلمية، ولم تخرج عما اعتدناه في الولايات المتحدة على الرغم من بعض العراضات المسلحة في أماكن محددة. ومن المرجح أن نشهد انتقالاً للسلطة إلى الرئيس المنتخب، إنما ليس وفق التقاليد والأصول المعمول بها عبر تاريخ الولايات المتحدة، وليس بالسهولة التي عرفتها نهاية وبداية ولايات الرؤساء على مدى أكثر من 250 سنة.

لعل من الأفضل لنا كعرب أن نترك خلال الشهرين المقبلين شؤون أميركا لأبنائها، وأن يقلع البعض منَّا عن الرهان على الدعاوى والطعون والفوضى التي يبشرنا بها، لنركز على الخطوات المطلوبة من الجهة المتلقية للتغيير المقبل على أميركا ومن أميركا، ونعني بها دول منطقة الشرق الأوسط خاصة، ومن يعنينا منها من دول عربية محسوبة حليفة أو صديقة لواشنطن.

نعرف مسبقاً الملامح الرئيسية لسياسة الإدارة الديمقراطية الجديدة المنتخبة، وقد عبر عنها الرئيس المنتخب في حملاته الانتخابية وفي الأيام القليلة التي تلت انتخابه. ونرجح مسبقاً ألا تكون سياسته الخارجية استنساخاً لسياسة سلفة الديمقراطي باراك أوباما، لأن العالم بغربه وشرقه تغير كثيراً في الأربع سنوات الماضية، بحيث لا نبالغ إذا قلنا إن أوباما نفسه لو عاد للحكم لغيَّر سياساته. لم تنجُ منطقتنا من هذا التغيير ودخل على المعادلة الإقليمية كثير من المعطيات الجديدة لم يعد يفيد بالتعامل معها إرث الخطاب القومي والثبات الخشبي حتى في الخطأ، وبات من المهم إدراك أن التعاون والشراكة لا يعني ارتهاناً ولا ذوباناً ولا تطابقاً.

نقول ما نقول لأن همنا اليوم هو أن نتلمس مقاربة الدول العربية للإدارة الجديدة، وكيف ستتلقف سياستها ومواقفها المستقبلية تجاه أبرز المعضلات التي تواجهها ويمكن إيجازها بخمس: دور إيران في الإقليم وسياستها التدخلية التوسعية، والحرب الدائرة في كل من سوريا واليمن، ومكافحة الإرهاب والتطرف، والنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني وعمليات التطبيع مع إسرائيل.

يحتاج الجانب العربي في هذه المرحلة وقبل تسلم الرئيس المنتخب مهامه في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل أن يعمل على توضيح رؤيته لهذه القضايا وموقفه منها ليحدد أولاً سياساته وثانياً مطالبه من الإدارة الجديدة. إن توضيح المواقف يبدأ من خلال الوصول إلى رؤية عربية مشتركة لمثل هذه القضايا الرئيسية، ولكن للأسف، تظهر اليوم أكثر من أي وقت مضى استحالة التوصل إلى موقف عربي موّحد، ولذلك يقع العبء الأكبر على الدول الحليفة والصديقة لواشنطن، خصوصاً دول الخليج في اجتراع خريطة طريق تحدد سياساتها. ولا بد من الإشارة في هذا السياق، إلى أن العمل مع فريق الرئيس المنتخب أهم في هذه المرحلة من العمل مع الرئيس المنتخب نفسه، وأن إحاطة الفريق الرئاسي القادم إلى السلطة مهمة عربية ملحة.

في معضلة إيران، لا بد لنا من التوضيح أننا نسعى إلى علاقات سليمة وسلميّة مع النظام الإيراني، وبالتالي لسنا بالمطلق ضد تسويات أميركية – إيرانية محتملة، ولكن ليس على حساب أمننا وهويتنا وتفكيك مجتمعاتنا عبر إثارة نعرات مذهبية وأقلوية، من خلال زرع وكلاء لها خلقوا دويلات في الدول.

في مسألة الحروب بسوريا واليمن وليبيا، التشديد على ضرورة إنهاء ظاهرة الدول الفاشلة لتداعياتها الكارثية سياسياً وأمنياً وإنسانياً على العالم أجمع، وضرورة كبح جموح اللاعبين الإقليميين والدوليين وإعادة أحجامهم المنتفخة إلى طبيعتها، كما نيتنا دخول نادي الدول الديمقراطية.

أما في الإرهاب والتطرف والإسلام السياسي المتشدد، فالوضوح التام بات ملحاً وكما توصلت واشنطن بعد عقود إلى إدراك أن لا تمييز بين الإرهاب السني والإرهاب الشيعي، علينا من جهتنا أيضاً إدراك أن الإرهاب بكل لبوسه يبقى إرهاباً والتطرف تطرفاً، وعلى الموقف العربي أن يكون واضحاً ويتخلى عن استخدام هذه الـ«لكن» المعتادة التبريرية وضعيفة الحجة.

أما بشأن النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني وموضوع حل الدولتين لا سيما بعد انطلاق قطار التطبيع، فالمطلوب من دول الخليج ودول عربية حليفة وصديقة كمصر والأردن الضغط على الأميركيين باتجاه اعتماد سياسة متوازنة وعادلة. ندرك أن واشنطن لن تتخلى عن أمن إسرائيل ومصالحها، إنما علينا الضغط لتأخذ بالاعتبار المصالح العربية وعلى رأسها الفلسطينية.

وما يوازي تحديدنا لما نريد من أميركا أهمية، هو تكوين رؤية واضحة عما نستطيع نحن كدول عربية تقديمه لحل بعض من هذه المعضلات، لأن جزءاً منها يفوق قدراتنا كدول إقليمية كالملف النووي الإيراني والقضية الفلسطينية. كذلك من الممكن أن نساعد في قضايا حيوية أخرى غير قضايانا ذات اهتمام مشترك، لا سيما تلك المتعلقة بالمناخ والبيئة والمياه والتصحر.

لن نتمكن من تحديد ماذا نريد من أميركا وماذا يمكننا تقديمه لها في دوامة حل مشاكل المنطقة، إلا إذا كان الصوت العربي العقلاني والعملاني مدوياً وسط دوائر القرار في واشنطن، ويحمل تصوراً واضحاً لما يجب عمله لبناء شراكة جديدة، لا أن نكتفي بالتفرج على ما يجري فيها وننتظر حسم نتائج الانتخابات الرئاسية. المطلوب مرة جديدة ترك شؤون أميركا للأميركيين والعمل منذ الآن على تحصين المواقف العربية وتفعيلها للتأثير على السياسة الأميركية، حتى لا نسمح لها باللعب على خلافاتنا أو المرور بين شقوقها وهي العارفة بها.