الإقبال الكبير على الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية، يقابله إقبال كبير في كل العالم على متابعة هذا الحدث. صحيح أنه منذ سنوات طويلة، ينظر العالم كله بعين القلق الى من سيكون رئيس أميركا، لكن هذه المرّة، يتصرّف البشر كأن مصيرهم عالق على نتيجة التصويت. إنها معضلة العلاقة الإلزامية بالممسك بمفاتيح أساسية لحياة مليارات البشر في العالم. وإذا كان الأميركيون لديهم حساباتهم الخاصة لتقرير من يفضّلون، فإن البشرية تتصرّف بتوتر ناجم عن كونها محرومة من إلقاء الورقة في صندوق سيختار من له دور أساسي في مستقبلهم. في هذه اللحظة، يتصرف البشر مثل قاطني بيروت من غير «سكانها الأصليين»، أي الذين لا يقدرون على اختيار مجلسها البلدي الذي يدير أمورهم اليومية. ها نحن الآن، نحسب لأنفسنا دوراً في هذه الانتخابات.
ولأننا كذلك، نختلق عناوين ونقاشات ومتابعات لما يحصل هناك، على قاعدة أنّ لنا رأينا بما سيحصل. وكما أن في أميركا انقساماً كبيراً في الرأي، فعند المواطنين غير المسجلين في كل الكرة الأرضية انقساماتهم أيضاً. المتماهون مع التجربة الأميركية، والراغبون بعيش الحلم الأميركي، يريدون فوز جو بايدن. غالبية هؤلاء يعتقدون أن بايدن سيعزز الطريقة الأميركية كما كانت عليه قبل مجيء ترامب، وأن المسألة تتعلق بشخص ترامب. ولذلك، يفترضون أنه كما يغيّر الرئيس الجديد أعضاء إدارته، فإن بايدن، في حال فوزه، سيعيد أميركا الى ما كانت عليه قبل وصول ترامب. وجلّ هؤلاء يفكرون بأن ابتسامات الديموقراطيين ستعيد الألق الى صورة أميركا في العالم. هم مثل أبناء المدن الأميركية الكبرى، الذين يريدون رئيساً لا يكون مصدر سباب وشتيمة لهم. لكن هؤلاء يقيسون الأمر من زاوية تأثير الانتخابات على تواصلهم المباشر مع هذه البلاد. هؤلاء، مثلاً، يعتبرون أن سياسات أميركا الداخلية أو الخارجية ستكون أقل فظاظة لو أتى بايدن. وهؤلاء يخجلون بترامب كخجلهم بحكام بلادهم في العالم. هم يفضّلون النسخة المهذبة عن الرجل الأبيض. لكنهم يرفضون أي نقاش حول عقل بايدن، بل يريدون حسم الأمر عند حدود سلوكه.
ثمة في العالم من يؤيد السياسات الأميركية في الخارج. وثمة في العالم مَن يريد أن تبقى أميركا قائدة العالم. وهؤلاء يحسمون أن كل شيء جيد لن يكون جيداً إذا لم يكن مصدره أميركا… فكرة أو سيارة أو تكنولوجيا أو أي شيء. وهؤلاء لا يروقُهم أن يكون هناك نقاش واسع حول من يحكم أميركا، والغالبية من هؤلاء تكره ترامب، لكنها لا تنتقد سياساته، بل تقف عند سلوكه. وكأن الأمر سيكون على صورة أخرى، لو أن رئيس أميركا جاء وسرق أموال العرب مثلاً، لكن مع ابتسامات وكلام لطيف. أمّا أن يسرق أموالنا و«يبهدلنا» فهذا كثير…
لكن في العالم فئة أخرى تكره أميركا. وتعريف الكره يجب ألّا يكون محاطاً برهاب التمييز بين الحاكم والمحكوم وكل الزعبرات التي تسبق عادة كلمة «ولكن»: نعم هناك حكومة منتخبة رديئة، ولكن… صحيح أن الشعب الأميركي هو من اختار هذا الرئيس ولكن… الأخطاء التي ترتكب في العالم مسؤولية المجتمع الأميركي ولكن…!
لندع هذه الـ«ولكن» جانباً، ولنعد الى رأي خصوم أميركا، خصوم النظام الاقتصادي والسياسي والتعليمي والثقافي والعلمي والبيئي والصحي والسلوكي والديني والإثني وكل ما يتعلق بهذه الدولة. لأن الأمر هنا لا يبقى متعلقاً بحسابات من ينتظر الأعاجيب والمعجزات.
شعوب الجنوب، ومن غير البيض، يعانون الأمرّين منذ عشرات السنين إن لم يكن أكثر. ومصدر معاناتهم الدور المركزي الذي قام به الغرب، سواء عندما قادته أوروبا أو عندما تولّته أميركا. العقل نفسه، والأهداف نفسها، والغاية نفسها التي تختصر بسلبنا كل شيء. حريتنا وقدرتنا على التفكير قبل ثرواتنا وبلادنا. وهذا الغرب، هو الذي أنتج العقل التسلطي بكل صوره البشعة، وبكل قتله العشوائي الذي أصاب ملايين البشر، وهو العقل الذي يمنح قلة متعجرفة، حق التفوق والتصرف من دون محاسبة أو مساءلة. وهو العقل الذي لا يزال يحكم من بيده الأمر في قلب أميركا وقلب الغرب عامةً. وهو عقل فيه كل شيء من الشر. نظريات دينية وحضارية وثقافية وعنصرية متعددة الألوان، وتجاهل مستمر لحقوق الآخر. ولأن هذا الغرب تقوده أميركا اليوم، فإن مصلحة أهل الجنوب هي في انهيار النظام الحاكم في قلب أميركا. وربما يرى البعض جنوناً في الاعتقاد بأن خلاص العالم يبدأ بانهيار هذا الكيان الذي اسمه الولايات المتحدة الأميركية، وانهيار كل النظام الحاكم في أوروبا الغربية.
ما يعنينا هو هذه التمنّيات بأن تفيق أميركا على واقع سياسي يزيد من أزماتها الداخلية، ويعقّد من آليات الحكم فيها
ولأننا على هذا النحو، يجب أن يُسمح لنا بأن نتصرّف إزاء الانتخابات الأميركية من دون وهم صاحب الحق بالاقتراع. كل ما لدينا هنا هو مجرد آمال، بمعزل عن توافقها مع التقديرات أو التوقعات. في هذه اللحظة، ما يعنينا هو هذه التمنّيات، بأن تفيق أميركا على واقع سياسي يزيد من أزماتها الداخلية، ويعقّد من آليات الحكم فيها، ويجعل اقتصادها أكثر تعثّراً، وسوقها أقل رواجاً، وانقساماتها أكثر حدّة، وخلافاتها أكثر توتراً… ما سبق يحتاج إلى التجديد للأهبل الأكبر دونالد ترامب. الأهبل الذي يناسبنا ولو ألقى المزيد من القنابل فوق رؤوسنا. فهو مهما فعل، لن يزيد عما فعله أسلافه من «العقلاء». وإذا خسر ترامب، فالتمنيات أن تكون خسارته غير جليّة، فينعقد الخلاف حول البتّ بها. وليحصل ما يحصل. ولأن الأمر على هذا النحو، فإن كل كلام وتنظير آخر هو مجرد كلام من أشخاص أو جهات يتوهّمون أن لهم دوراً في صناعة القرار في أميركا، وهم في حقيقة الأمر يريدون لأميركا ما يرونه، من زاويتهم، أنه الأصح. عملياً، هم يتمنّون أيضاً. وهم مثلنا، من مواطني هذه الدولة المنتشرين في كل أرجاء المعمورة، ممن لا يملكون حق التصويت. ولأنهم كذلك، ليتوقفوا لحظة عن تلبّس شخصية الرجل الأبيض وهم يتحدثون الى شعوبهم.