Site icon IMLebanon

أزمة الشغور من الانتداب الى الاستقلال الى المجهول تحيط بالسلطة

قصة غضبة الكاردينال على أبواب التغيير الغامض

ووقائع الخلافات بين لقاءات الكبار والاحجام عن الحوار !!

بقّ نيافة الكاردينال البحصة، من فمه في أستراليا، وشهر سلاح الموقف، في وجه السعاة الى اعادة النظر في اتفاق الطائف.

وبين سيدني وملبورن والعاصمة الفيدرالية كامبيرا، وجد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، فرصاً سانحة لاطلاق مخاوفه، في ضوء ما نُقل اليه قبل مغادرته لبنان، عن وجود نيات غامضة ترمي الى تغيير جذري في التركيبة اللبنانية، وتهدف، في جملة ما تهدف، الى اعتماد المثالثة بدلاً من المناصفة، انطلاقاً من سريان العادة، عن خلو مقعد رئاسة الجمهورية، واستمرار نحو مئة يوم تقريباً، من دون رئيس جمهورية.

يروي مرجع ماروني يحب أن يبقى بعيدا من الأضواء، أنه نقل الى نيافة الكاردينال جواباً على سؤال طرحه على زعيم سياسي، عما اذا كان يتوقع انتخاب الرئيس العتيد، على أبواب العام الجديد، فاجابه ان الموارنة قد يتعودون على الشغور في المنصب الاول سنة أو سنتين أو ثلاثا، وهذا ما قد يمهد لولادة جمهورية من دون وجود رئيس ماروني في قمة الهرم السياسي اللبناني.

وصاحب النيافة مشهود له بتعلقه بأهداب الموقع، وهو موقع أساسي للموارنة، وعملي للبنان كله، لأن اللبنانيين اتفقوا في العام ١٩٤٣، على جمهورية برئاسة ماروني، لا على جمهورية تعطى رئاستها لمن يبرز لبنانياً، من أي طائفة كان، ومن أي جهة سياسية في البلاد.

رفع الكاردينال صوته في أوستراليا، وبحضور وجوه لبنانية من مختلف الطوائف، الاسلامية والمسيحية، داعياً الى انتخاب رئيس جمهورية بسرعة، ومن دون تسرع.

في العام ١٩٩٣، زار رئيس البرلمان نبيه بري أوستراليا، على رأس وفد نيابي، بعد اقرار وثيقة الوفاق الوطني، وعهد الى النائب السابق فايز غصن القاء كلمة باسم الوفد، في عشاء كبير دعا اليه السناتور عبيد وهو من اصل لبناني، لكن ابرز الوجوه الاعلامية في اوستراليا، تمنى على رئيس البرلمان اللبناني ان يتكلم باسم الوفد شخصاً آخر من الوجوه المعروفة بتأييدها للرئيس العماد ميشال عون، فرحب الاستاذ بالفكرة.

وفي اليوم التالي، لاحظ رئيس مجلس النواب اللبناني، اختفاء الخطيب عن الظهور، فقيل له ان انصاره عتبوا عليه، لأنه تكلم ضد توجهات رئيس الوفد. وهنا غضب الرئيس بري، وحث على البحث عن الرجل، وعندما عثروا عليه بادره بأن المسؤولين في الحكومة الفيدرالية الاسترالية، اشادوا به، لأنه حرص في تكوين الوفد، على خصوصية التنوع السياسي التي يمتاز بها لبنان عن غيره في الشرق الأوسط.

منذ قرابة عشرة أيام، اصطحب النائب السابق لرئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي، الرئيس العماد عون الى عين التينة، وجمعه الى مائدة غداء دعا اليها الرئيس بري، ويقال ان الهدف منها الحرص على ترميم العلاقات بين زعيمي عين التينة والرابية، ويقال ان هذا المسعى قطع منتصف الطرق للوصول الى تفاهم رئاسي بين الرجلين.

الى ذلك، فان زعماء الموارنة في البلاد حريصون على جمع الشمل فيما بينهم، تفادياً للقطيعة الى حد ان الدكتور سمير جعجع طلب من الوزير السابق وديع الخازن ان يقوم بجهد خاص لجمع رئيس تيار التغيير والاصلاح ورئيس حزب القوات اللبنانية الا ان رئيس المجلس العام الماروني حاول التنصل من مهمة صعبة، يتفاداها كثيرون، مما حدا بالوزير السابق، وربما تواضعاً منه، أن يتجنب الوقوع في مغطسها، بيد ان الدكتور جعجع اوضح له ان موقعه واحترامه من الجميع، يؤهله لمثل المهمة التي طلبها منه.

أي لعبة سياسية يمارسها الرئيس ايلي الفرزلي، وهل يلعب على التباينات ليربح تفاهمات دقيقة وصعبة؟ فهو يدرك أن الرئيس بري يضمر في ذهنه وفي سره، رغبة في توافق لبناني، على اسم صديقه الوزير السابق جان عبيد، لا سيما بعد ارتفاع حظوظه الناجمة عن تكليفه من المملكة العربية السعودية، ب الملف اللبناني خصوصاً ان وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل تربطه علائق سياسية قديمة مع المرشح الذي يخبئه الرئيس بري، ولا يظهره للرئاسة الأولى، الا عندما تنضج الظروف لمثل هذه المهمة.

وفي المعلومات أن الفرزلي استطاع حتى الآن، أن ينسج قماشة رقيقة تعبر فوقها القضايا الصعبة، لكن الاستاذ لا يبدل مواقفه بسهولة، ولا يكشف عنها بسرعة.. تاركاً الظرف المناسب، للافراج عما ينبغي فعله لتسويق ما يضمره، وهو يراهن على دور ايجابي من اركان تيار المستقبل لصالح ترشيحه للوزير والنائب السابق جان عبيد. ويقال ان الرئيس فؤاد السنيورة وبعض نواب المستقبل بدأوا رحلة التفاهم مع الرئيس سعد الحريري، لبلورة موقف لبناني يمهد لاطلاق ترشيح الرجل الذي كانت تربطه صداقة ممتازة بالرئيس الشهيد رفيق الحريري.

وما يعزز هذا التوجه، الحرص الذي عكسه ويعكسه الرئيس سعد الحريري في سعيه الى اذكاء ظاهرة الاعتدال لدى الطائفة السنية، ضد أورام التطرف التي تنتاب الطائفة الاسلامية، وهي تواجه أمراضاً غريبة عن الاسلام والمسلمين، وتعبر عنها حركات بعيدة من الدين، وتقوم على ذهنية ذبح المواطنين أو قتلهم.

ملامح واشارات

في غضون ذلك، تطفو على وجه التحركات، عودة الى مساعٍ سابقة زرعها المرشح الرئاسي السابق هنري رشيد صفير، يدعو فيها الموارنة الى الانفتاح لا الى التقوقع، ودعوات غامضة الى انشاء مجلس رئاسي من ستة أشخاص سبق للأستاذ مانويل يونس أن طرحها، وبدأت تدغدغ بعض الوجوه البارزة من ٨ و١٤ آذار، ولا سيما النائب محمد قباني ولكن بخفر وحياء لأنها أساساً تنسجم مع أي طرح يتبناه الرئيس سعد الحريري.

الا ان اصرار حزب الله على تزكية ترشيح العماد عون، الذي لم يترشح، ايماناً منه بأن الظرف يقتضي التوافق على مرشح يتمتع بقوة الشخصية والبراعة السياسية في بلورة افكار يتبناها المرشح الماروني والوجوه الفاعلة في الطوائف الأخرى.

الا ان حزب الله يراهن أيضاً، على التفاهم مع حليفه الشيعي الرئيس نبيه بري، الذي لا يقطع الحوار ايضا مع صديقه وليد جنبلاط، والذي لا يتخلى ايضا عن مرشحه هنري حلو، ولا يقفل باب التعاطي مع الآخرين.

وقد نقل عنه استعداده لتأييد ترشيح العماد عوة لمدة سنتين، يصار خلالها الى التوافق على مرشح توافقي، وعلى قانون انتخابي جديد.

الا ان الدكتور جعجع، يتابع مساعيه من اجل اللقاء مع العماد عون، للاتفاق على مرشح ماروني صلب في أفكاره، وقوي في مفاهيمه، ويكون بذلك منسجماً مع مبادرته الى سحب ترشيحه، ومبادرة العماد عون بدوره الى سحب ترشيحه.

ويسود الوسط السياسي، شعور قوي بأهمية التوافق اللبناني على مرشح ذي مواهب قيادية يحظى بتأييد ٨ و١٤ آذار والمستقلين، لأن ٨ آذار تؤيد العماد عون في حرصه على عدم افساح المجال امام مرشح لا لون له ولا طعم، لأن المطلوب الآن، ووسط التطورات الجامحة، الاجماع على مرشح ذي صفات تؤهله لقيادة البلاد من الانهيار الى الانفراج.

وبين التوافق والفراغ ووجود مخاوف من ترك البلاد أشهراً بلا رئيس، أن يتعود اللبنانيون على الاسترخاء السياسي، ولا يمانع عدد من الوجوه السياسية، وفي الاتفاق مع الكاردينال الراعي، المرشح الذي يضعه في ذهنه، أو مفاتحة الفاتيكان في الأمر، خصوصاً بعدما برزت أفكار أميركية، عبّر عنها أحياناً السفير الأميركي في بيروت دافيد هيل، تنصح باختيار وجوه كفية في الادارة اللبنانية لتغطية الشغور.

الا ان نجاح الجيش اللبناني، في القضاء على المسلحين في طرابلس والضنية، أعاد طرح اسم الجيش العماد جان قهوجي للرئاسة الأولى، أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو السفير اللبناني لدى الكرسي الرسولي.

صحيح ان الكاردينال الراعي خائف عما يشاع عن وجود نيات لطرح المؤتمر التأسيسي. الا ان حل ازمة خطف العسكريين، ونجاح او اخفاق الموفد القطري، يتوقف عليه مصير المرشحين.

وهذه البلبلة السياسية، تشير الى أن توافق الطائف وعدم تطبيقه أضعف الموارنة وخلق قضية مورانية، أدت الى تراجع نفوذ الزعماء الموارنة حيناً، وشدد على الحاجة الى زعامات قوية.

وهذا ما جعل المهندس هنري صفير، في كتاب أصدره في شباط ٢٠١١، يلوّح بسقوط الطبقة السياسية في البلاد، لأن ذلك يشكل فرصة لظهور باقة من القادة الجدد يتمتعون برؤية مغايرة، ورؤيا شاسعة لفكر سياسي جديد.

ويستدرك بقوله انه مخطئ من يظن أن الضمانة المارونية تكمن في النصوص والنظام فحسب، لأن الضمانة الفعلية هي في نوعية رجالهم وقادتهم ورموزهم، وفي فكرهم ونهجهم السياسي، وفي مدى قدرتهم على الاسهام الفاعل في بناء وطن واحد، وجديد، وضمانتهم الحقيقية هي ألا يكونوا حراساً للحرية فقط، بل رسلا للحريات أيضاً.

هل هذه مجرد أفكار أم ان لدى هنري صفير حلولاً لهذه المشكلة؟

يجيب على هذه التساؤلات بقوله إن المعالجة الصحيحة للمشكلات التي يواجهها الموارنة اليوم، لا تنطلق من مستوى الفرد الماروني أو الجماعة المارونية فحسب، بل تنطلق بالدرجة الأولى، من مستوى المجتمع اللبناني كله. وحركة المجتمع، هي التي تحدد قيمة وجود الموارنة أفراداً وجماعات، وهي التي تحدد كذلك موضع مشاركتهم ومعناها وجدوى هذه المشاركة. ولن يتمكن الموارنة من استعادة دورهم في التركيبة اللبنانية الا اذا وعوا حقيقة هذه التركيبة والتزموها، وفهموا أبعادها التاريخية والحضارية، وضوابط دورهم وحدوده فيها.

رب قائل: ليس هذا هو الوقت الملائم لنكء الجراح، والتراشق بالتهم، وإعداد جردة تفصيلية بالأخطاء، غير ان العكس في يقيني، هو الصحيح. فغياب النقد الذاتي في المنطقات التاريخية المصيرية، خطأ جسيم، لأن الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها القادة الموارنة باسم الموارنة، كانت شرطاً أساسياً لتصحيح المسار، وبزوغ فجر جديد في مارونية متجذرة.

يفرض الواقع قيام حوار موضوعي، ومناقشة علمية تشمل الموارنة وسائر الطوائف الأخرى في لبنان، لانه كما للموارنة، كذلك لكل طائفة لبنانية أزماتها المصيرية. وربما من خلال السلبيات والايجابيات، يمكن خلق مواطن جديد، ومجتمع جديد، وجمهورية جديدة.

كلنا، في رأيه، يعلم ان مأزق المارونية هو ذاتي وعام، أي ان ثمة مأزقا سنّياً ومأزقاً مارونياً ومأزقاً شيعياً، والجميع يخطئون في حمى الصراع الضائع بين الغد الذي لم يتبلور والماضي المتسلط على الراهن والتمسك بمكاسبه وسلطانه، وفي رأيه أيضا، اننا كلنا يريد اخراج لبنان من مأزقه، لذلك يتعيّن علينا جميعاً، بدلاً من الخلافات في شأن الوظائف والتراشق بالتهم، اجراء فحص ضمير ونقد ذاتي نستكشف في ضوئه ما شوّه هوياتنا من أخطاء.

إذ ذاك، وإذ ذاك فقط، نتصالح مع ذاتنا ويصبح بإمكاننا أن نسلك حياة جديدة وصراطاً مستقيماً، ويخرج كل من الكهف الذي سجن فيه نفسه سياسياً. لذلك نرى ان من واجبنا النظر الى مستقبلنا بحكمة وروية وشجاعة، فنعترف بأن خطيئتنا كانت عظيمة، ثم علينا أن نبحث في القضية المارونية، ونحدّد الهوية المارونية، فنعرض الرؤيا المارونية.

هل يشكّل إلغاء الطائفية السياسية حلاً، أم يكمن الحلّ في الموالفة بين أبناء الطوائف اللبنانية كما يرشدنا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني؟ فيؤمن كل منّا بلبنان دون اشراك أو مخاتلة، وهكذا نستفيد من البريق الذي جذب المغتربين وفتن العالم عندما كان لبنان يذكر مثلا للعيش المشترك ويتمتع بقدرة دبلوماسية وصدقية كبيرتين.

في عهد الانتداب تلهّى الموارنة بمنازعاتهم، وفي عهد الاستقلال انحصر همّهم بالحكم والتحكّم، وأخفوا وراء شعاراتهم البرّاقة، أهداف التجزئة والانقسام.

وفي عهد الاستقلال انحصر همّهم بالحكم والتحكّم، وكان لا يجتمع سياسي ماروني بمسؤول أميركي إلاّ ليطلب منه الرئاسة، بدلاً من ان يفيدوا من سلطاتهم الدستورية لبناء الدولة اللبنانية العصرية.

كم مرة كانوا على وشك التفاهم المطلق والدائم على صيغة وطنية لوطن ممتاز ومميّز في نوعه، تتفاعل معه الحضارات تفاعلاً بنّاء، ويكون اطاراً احل الخلافات بالحوار، لكنهم جعلوا الأرض اللبنانية مسرحاً لتصفية المنازعات بالحديد والنار، كما يرى صغير نفسه، الى حدّ انه قال، انه بدلاً من دفع الجيش الى الحدود أبعدوه عنهم متستّرين وراء اتفاق الهدنة، وبدلاً من تعزيز جيشهم عدة وعدداً في أيام الخير، أقحموه في السياسة، وكأن التضحية تكون في الداخل لا على الحدود، متنكّرين لالتزامات لبنان من خلال الميثاق الوطني، ومواثيق الجامعة العربية ومعاهدة الدفاع المشترك.

وبدلاً من تعزيز العدالة الاجتماعية لتعمّ الخيرات جميع اللبنانيين، ارتجلوا سياسات اقتصادية ديماغوجية تسهّل الاحتكار وتعمّق الخلل الاجتماعي بين الفئات اللبنانية.

وبدلاً من إعداد جيل جديد مسؤول وتوفير له قنوات الاتصال ليعبّر عن رأيه ويؤثر في القرار السياسي، أبقوا على الجيل القديم وسدّوا الطريق في وجه الشباب الطالع.

وبدلاً من التركيز على سياسة اقتصادية صناعية وتجارية متينة ومحمية، أخذنا نلبس مما لا ننسج ونأكل مما لا نزرع، واسترسلنا في الاستيراد الجنوني مغيرين على مال قطاع الخدمات.

وبدلاً من أن نستبق الزمن ونكون المبادرين الى تطوير النظام بطريقة علمية، تمسّكنا بالضمانات، ودأبنا على الخطاب الفارغ المموّه، فنفذت الصهيونية والقوى الخارجية من ثغراتنا وأخطائنا وكنا وقوداً لحرب الآخرين على أرضنا.

وبدلاً من أن ننفتح على الدول شرقية وغربية سواء بسواء، اقتصاديا وسياسيا، أنحزنا الى الغرب، كأن الشرق الذي نحن منه وفيه لا يشكّل نصف العالم.

أخفقنا داخليا في تجميع قوانا حول فكرة عملية، أو حول قيادة واعية واعدة ومسؤولة، فتفتتنا الى مارونيات مناطقية، وكانت لنا مارونيتنا الشرعية، ومارونيتنا العسكرية، ومارونيتنا الحزبية، ومارونيتنا الاحتكارية. وكان لكل منها عنترياتها، ومناوراتها، وشعاراتها، ودهاؤها، وحذلقتها، وانحرافاتها عن العقيدة الأصلية.

في بدء الحرب قالوا: هناك مؤامرة تستهدف لبنان، لكنهم لم يوضحوها. ثم قالوا: المؤامرة تستهدف الشرق الأوسط بكامله، لكنهم لم يبيّنوا اسبابها.

ثم حصروا المؤامرة في قضايا عدة، ومنها القضية المارونية. مؤسف ذلك، لأن هؤلاء جعلوا من قضية لبنان قضية فئة من اللبنانيين.

المؤامرة على الشرق، ذات أبعاد مختلفة، وقد يكون بعدها الأعمق، تحويل المشكلات السياسية والاقتصادية الى قضايا عنصرية دينية تتجمّع، وتتركّز، وتتكثّف في نقطة تفجير، وفي موقف محرج يتعذّر الرجوع أو التفريط به.

فقضية فلسطين مثلاً التي هي في الأساس قضية شعب وهوية، حاولوا ضغطها وتحجيمها فحوّلوها الى قضية أرض فقط. ثم حاولوا ضغطها أكثر فحوّلوها الى قضية اسلامية، مسقطين من حسابها الديانتين الأخريين. والقضية العربية بكاملها يحاول البعض تحويلها، خطوة بعد خطوة، الى قضية اسلامية متعددة الفروع.

وأما تفاقم التفجير المخطط، فيخدم موقتا مصالح المتآمرين، وكل تفجير من هذا النوع يفضي الى حرب، إفناء، ليعود بعدها من بقي من الأحياء الى البحث عن سبل العيش المشترك على الأرض ذاتها ويتقبلوا المصير المشترك.

من هذا الواقع المرير تبرز وتتجلّى القضية المارونية، التي كانت في سياق المؤامرة ورقة في يد المتآمرين. وبقاؤها أو زوالها مرهون بنجاح الخطة أو فشلها، لأن التركيز كان على بقاء أقليّة، أمّة في عالم مترامي الأطراف، واسع المساحات، متعدّد الأقليات، مكتنز بالطاقات.

فهل وَقَعَ الموارنة في الفخّ المنصوب لهم، ومن خلالهم للبنان؟

عالج الموارنة أزماتهم بخفّة حيناً، وباستخفاف أحياناً، لكنهم وصلوا في النهاية الى بيت القصيد، ذلك انهم قالوا في السابق ان الطائفية السياسية هي علّة العلل، وهي حقاً كذلك بفعل مستغليها.

واذا كان قادة سياسيون قد استغلوها في الماضي، فمن أجل انجاح سياساتهم، أما حديثو القيادة فيهدفون الى إفساد كل محاولة تقريب.

وعندما تنطلق سفسطة السياسيين باسم الدين، فانما يمجّدون الله ويضحّون بهم مجاناً.

واذا ما تمكّنت الطائفية السياسية من عقول أسيادها، تزول كل عقيدة، وينطفئ سراج الحرية، ويبتعد الناس عن الايمان بحقوقهم وبمبادئ الحرية، وعن ممارسة العدالة الاجتماعية، وعن أفكار التقدم والانماء، وتموت شعلة الابداع، فيموت أسمى ما في لبنان.

هل يمارس المحبة، من يدعو دينه الى المحبة؟

هل يمارس العدالة من ينادي دينه بالعدالة.

والجواب عند الكاتب ان خير دليل إبان الحروب اللبنانية، على بعد الطائفية السياسية عن الدين هو غياب الفكر والفن والتأليف والكتابة الحرّة، اضافة الى هجرة الشعراء والمفكرين، وهذا ما سمّي بصراع طائفي كان مجرد مسرحية، لا معاناة حقيقية عند دعاتها.

ولو كان فعلاً، هناك معاناة حقيقية وحرمان جدّي، لشكّلت الحروب اللبنانية أرحاماً تتكوّن منها ملاحم شعرية وثورات فكرية وانتفاضات بشرية، غالباً ما تكون أقوى من المدفع، وأشدّ إذية من القنص، وأروع من جحافل المشرّدين، وأفعل في النفوس من خطب بعض السياسيين.

ويقول هنري صفير، نعم نحن مع إلغاء الطائفية السياسية، لأننا أساساً مع العلمنة، ومع شرعة حقوق الانسان.

أو اذا كنّا لا نستطيع اليوم المطالبة بالعلمنة الشاملة، بدافع من الليونة، وتجنّباً لاثارة الحساسيات، فلماذا لا نقبل بأي أخوّة تمهيدية، ولو جزئية نحو إلغاء كل الحواجز، بين المواطنين وإذ كان إلغاء الطائفية السياسية يشكل بمضمونه، توجهاً نحو الهدف، فنحن مع إلغاء الطائفية السياسية من دون تردد، الا الصراحة تقتضي الصراحة والمصارحة أن نسأل:

هل إن الغاء الطائفية السياسية يعني إعلانا من قبل جميع اللبنانيين، وتعهداً بالتقيّد بشرعة حقوق الانسان؟

هل يشكّل الإلغاء ايمانا شاملاً وإقراراً كاملاً بحرية المعتقد حتى للملحدين؟

هل يصبح أهل الأمة وأهل الذمّة والملحدون متساوين في الحقوق والواجبات بعد إلغاء الطائفية السياسية؟

هل يؤدي الغاء الطائفية السياسية الى اعتناق ديمقراطية حقيقية كاملة، وخاصة شفّافة؟ لأن الديمقراطية تكون شفّافة أو لا تكون.

ويخلص الى القول:

نحن مع إلغاء الطائفية السياسية اذا كانت تعني كل ذلك. ولكن كيف؟ ومتى؟

نحن مع إلغاء الطائفية السياسية اذا كانت النتيجة تجعل العلاقات القائمة بين المجموعات اللبنانية تتحوّل من علاقات تناحرية سلبية، الى علاقات تعاونية ايجابية، تنطوي على معاني متجانسة، وعلى المناغمة والموالفة بين الطوائف وبين المواطنين،. أما بخلاف ذلك، فيصبح إلغاء الطائفية السياسية طائفية جديدة، هي طائفية إلغاء الطائفية. واذا كان الغاؤها محدوداً لدرجة هزيلة، لا يهدف إلاّ الى إلغاء طائفية مسؤول كبير أو بعض الموظفين، فهذا يجعل المسؤول والموظف، بعد انتخابه أو تعيينه أو تسليمه المسؤولية، يعود الى بيته ومجتمعه لممارسة طائفية بغيضة تشرذم المواطنين والوطن وتمزّق المجتمع. فما معنى الإلغاء في هذه الحال؟