IMLebanon

الفراغ… وغياب الإحباط

 

كان يفترض أن يُحدِث الفراغ الرئاسي إحباطاً داخل الشارع المسيحي، خصوصاً أنّ هذا الفراغ يطاول أبرز موقع مسيحي في الدولة اللبنانية، وشكّل تاريخياً عنواناً لدورهم الوطني، غير أنّ الشارع المسيحي لم يتأثر بعدم انتخاب رئيس، الأمر الذي يستدعي التساؤل عن الأسباب التي حالت دون هذا الإحباط.

في الذكرى السنوية الأولى على الفراغ الرئاسي، لأنه من غير المُستبعَد «الاحتفال» بهذه الذكرى مجدداً، لا يمكن الحديث عن إحباط داخل الشارع المسيحي بسبب عدم انتخاب رئيس، على رغم أهمية هذا الموقع بالنسبة إلى المسيحيين الذين يعتبرونه، وعن حق، بأنه يجسّد الشراكة المسيحية-الإسلامية، ويعكس فرادة النموذج اللبناني، ويؤشر إلى قدرة مكوّنات طائفية مختلفة على التعاون والتفاعل والتواصل لِما فيه مصلحة المشترك بينها لا سيما في هذه المرحلة التي تشهد على مستوى العالم وتحديداً العربي استنفاراً للغرائز والعصبيات، واصطداماً مذهبياً وفتنوياً، وكلاماً عن الفرز والتقسيم واستحالة العيش معاً.

ففي هذه اللحظة بالذات كان يُفترض بالمسيحيين إمّا أن يكونوا معبّئين نتيجة الفراغ الرئاسي، وإمّا أن يكونوا مُحبطين بفِعل خشيتهم من فقدان أبرز مواقعهم الدستورية.

ولكنّ واقع الحال يفيد أنهم غير معبّئين ولا محبطين، وقد يكون السبب في ذلك مردّه إلى الآتي:

أولاً، لأنّ الفراغ الرئاسي لم يحصل نتيجة صراع مسيحي-إسلامي أو استهداف إسلامي للمسيحيين، ولا المقصود منه إقصاء المسيحيين عن موقع الرئاسة الأولى.

ثانياً، لأنّ هناك شعوراً أنّ المواقع الدستورية أضحت شكلية في ظل الستاتيكو الكبير الذي جَمّد اللعبة السياسية، فوجودها أو عدمه لا يبدّل شيئاً في المشهد السياسي، وما ينطبق على الرئاسة الأولى ينسحب على الرئاستين الثانية والثالثة اللتين لا يتجاوَز دورهما تصريف الأعمال.

ثالثاً، لأنّ هَمّ اللبنانيين الأساسي أصبح إبعاد الحريق الإقليمي عن بلدهم، ولا يضيرهم التوازن السلبي القائم الذي يُبعد شَبح الفتنة، ولَو كانت كلفته تعليق الديموقراطية وتحوُّل التمديد إلى عُرف مؤقت بانتظار أن تنجلي الصورة الإقليمية.

رابعاً، لأنّ الإحباط في الشارع المسيحي ارتبط بتغييب قياداتهم التاريخية ولم ينسحب على مواقعهم الدستورية، والدليل زمن الوصاية السورية حيث كانت أولويّتهم عودة زعاماتهم إلى المشهد السياسي، لا تعزيز صلاحيات مواقعهم الدستورية، حيث أنّ وجود قادتهم يُشعرهم بالأمان السياسي.

خامساً، لأن لا خشية لدى المسيحيين على مستقبل رئاسة الجمهورية، ولأنهم لا يأخذون على محمل الجد الأقاويل التي تتحدث عن أنّ الرئاسة الأولى لن تبقى ضمن حصتهم.

سادساً، لأنهم يعتبرون أنّ دورهم لن يقدّم ولن يؤخّر في الصراع السني-الشيعي والسعودي-الإيراني.

فلكلّ هذه الأسباب وغيرها لا إحباط في الشارع المسيحي بسبب عدم انتخاب رئيس. ولكن غياب الإحباط لا يعني إطلاقاً أنّ هذا الوضع الشاذ موضع ترحيب، حيث أنّ المسيحيين كانوا يفضّلون أن ينطبق عليهم وضع شركائهم لجهة تعبئة موقعهم الأول وتأدية دورهم ضمن سياسة إدارة الأزمة القائمة، بدلَ أن تكون رئاسة الجمهورية شاغرة، وتتعوّد الناس على غياب الرئيس.

وهذا الشغور، بعِلم المسيحيين وغير المسيحيين، هو مؤقت لا دائم، والجميع يتعاطى معه على هذا الأساس، وغياب الحياة السياسية مع التمديد المتواصل والتسليم المتبادل بالتوازنات القائمة أدّى إلى تنفيس أيّ نقمة شعبية مُحتملة، ولو كانت الحياة السياسية بألف خير لكانَ اختلف الأمر حكماً، لأنّ المسيحيّين كانوا سيشعرون عندها بالتغييب.

ولكن كل المكوّنات الطائفية متساوية اليوم بشكل أو بآخر، فمجلس النواب معطّل والحركة البرلمانية مشلولة، والحكومة تنأى بنفسها عن السياسة، وقد تحولت إلى حكومة تكنوقراط بالوظيفة لا بهوية الوزراء، فيما رئيس الحكومة يتقاسم القرار مع أعضائها تنفيذاً للبروتوكول الذي تمّ إقراره بعد الفراغ الرئاسي والذي قضى بنقل صلاحية الرئيس إلى كل وزير من الوزراء الـ24، فضلاً عن أنّ أولوية رئيس الحكومة تلافي الانقسام وإبعاد كلّ ما من شأنه أن يعلّق جلساتها، وذلك التزاماً بالاتفاق الدولي-الإقليمي-المحلي الذي كان وراء قيام الحكومة على أساس تحييد الملفات الخلافية عن المؤسسات الدستورية.

وما تقدّم لا يعني إطلاقاً تبرير الفراغ أو تبسيطه، فهو غير مقبول لا من قريب ولا من بعيد، ويشكّل ضرباً للدستور والميثاق، ويجب الدعوة يومياً لانتخاب رئيس جديد والدفع عملياً بهذا الاتجاه، ولكنّ الواقعية السياسية تفترض التسليم بالحقائق الآتية:

أ- لا انتخابات رئاسية في الأفق المنظور.

ب- إتمام الانتخابات يتمّ بحالة من حالتين: إمّا يتراجع العماد ميشال عون عن ترشيحه، أو يتراجع «حزب الله» عن دعمه لعون، ولا يبدو أنّ الطرفين في هذا الوارد.

ج- حصول الانتخابات أصبح مرتبطاً بظروف خارجية لا محلية، أي الذهاب نحو تسوية على غرار «الطائف» أو «الدوحة»، ولا يبدو أنّ هذا الاحتمال قريب.

فبعد عام على الفراغ يتركّز كل الاهتمام على إبعاد السورنة والعرقنة عن لبنان في ظلّ إبلاغ محور المقاومة مَن يعنيهم الأمر أن ّسقوط دمشق، بفِعل التمدد المعارض المتواصل، سيقابله سقوط بيروت تحت نفوذ هذا المحور بشكل كامل، في تكرار، بالحد الأدنى، لسيناريو إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري.