الجمهورية في معمعة التباينات والخصومات
ومعركة الجبل وكسروان مثل الصراعات في زحلة
المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية، كانت بحجم المرحلة الأولى أهمية، وأكثر منها نفوذاً، وأبعد منها تأثيراً في الحياة السياسية.
لكن، الاستدراك السياسي مسبقاً، لا بد من أن يترك انعكاساته على مجريات الأمور، خصوصاً على صعيد النتائج، والافرازات غير المنتظرة في معظم المناطق.
ويقول الرئيس حسين الحسيني إنه لا بد من احتساب معظم الاحتمالات، لأن لكل مرحلة انتخابية حساباتها والأفكار، وان لانتخابات المتن أبعادها كما كان لمعركة بيروت وزحلة موازينها السياسية المفاجئة، وهذا ما حدا بالرئيس نبيه بري الى الخروج عن صمته، ولو على حساب توقعاته السابقة، عندما دفع المجلس النيابي الحالي الى تمديد ولايته، أو حين بادر فور ظهور النتائج في بيروت وزحلة، الى القول، وبصوت عال، إنه لن يكون ثمة تمديد جديد للمجلس النيابي الحالي، ولا بد من اعداد مشروع قانون جديد للانتخابات النيابية، على الرغم من حرصه وحرص كثيرين على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد تعثر عملية الانتخابات عامين متكاملين.
ولذلك، فقد بادر رئيس البرلمان الى الاسراع في تحديد موعد معركة جزين لاختيار خلف للنائب الراحل ميشال حلو،. متحملاً في الوقت نفسه أوزار وجود نائب منتخب الى جوار ١٢٧ نائباً، ضاق المواطنون ذرعاً في حمل أعباء وجودهم، بعد تمديد غير مستحب أو في ضوء رغبات جامحة الى التجديد في الحياة السياسية.
ويرى كثيرون أن معركة بيروت الأخيرة، انطوت على نتائج سلبية، تقبلها الرئيس سعد الحريري ب صعوبة، واعتبر أن حلفاءه المسيحيين، لم يقوموا بما يُمليه عليهم واجب التحالف السياسي، لأن بيروت أعطت نسبة اقتراع لم تتجاوز العشرين في المئة، فيما نال المنافسون له قرابة الأربعين في المائة من نسبة الأصوات في الصناديق، مما يعني أنه لو كان هناك نظام انتخابي نسبي، لكان الرئيس سعد الحريري الخاسر الكبير في معركة العاصمة. وهذا ما جعله ينأى بنفسه عن حسابات الفوز، ويهدد أحياناً ب خيار الانسحاب من معمعة الحلفاء والأخصام، ويقنع نفسه في النهاية بأنه أعطى ما ينبغي له إعطاؤه، لا بما ينبغي له نيله من نتائج.
لماذا حصل ما حصل على صعيد معركة بيروت؟
والجواب، ان سعد الحريري أقبل على الانتخابات بمنطق الحليف الصادق لا الحليف الضعيف ولذلك، فقد خاض معركة المناصفة، واستطاع أن يعطي ١٢ عضواً في المجلس البلدي لمدينة بيروت للمسيحيين، و١٢ عضواً للمسلمين، في حين كان الخوف يجثم على صدور البيارتة من سقوط لائحة البيارتة أمام المد الانتخابي للقوى المدنية صاحبة الأربعين في المائة من الأصوات، والقوى اليسارية بقيادة الوزير السابق شربل نحاس، هذا على الرغم من انضمام التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية الى لائحة البيارتة والتأييد الكاسح ل حزب الطاشناق وحزب الهنشاك الأرمنيين وانصار الوزير ميشال فرعون الى الوقوف بصرامة وقوة الى جانب البيارتة، وفي صفوف نظمها الرئيس سعد الحريري في البسطا الفوقا والبسطا التحتا والطريق الجديدة الى جانب حلفائه.
طبعاً، من حق الرئيس سعد الحريري أن يزعل من حلفائه، لأنهم لم ينصفوه ولم يقوموا بأي جهد للذود عن المناصفة في بيروت، وتركوا الأمور تسير وفق حماسة أو فتور في دعم اللائحة المنافسة، لكنه استاء فعلياً من فتور في دعم المناصفة من جانب قوى روحية أو سياسية، اكتفت بترشيح أصدقائها على قائمة بلدية بيروت، وربما عتبت على الزعيم السني الأول في لبنان، بأنه اختار مرشحاً لرئاسة بلدية بيروت هو جمال عيتاني من دون أن يتشاور معها مسبقاً قبل اختياره.
قد يكون من حق الرئيس سعد الحريري الاختيار، لكن التشاور بين الأفرقاء الآخرين من مسيحيين وشيعة ودروز ضروري قبل اعلان اللائحة وتسمية رئيسها. وثمة تجارب عاقلة على هذا الصعيد ارتكبها رؤساء بلدية سابقون، وحصدوا لاحقاً مرارة السلبية، لدى البحث في جدول أعمال المجلس البلدي الذي كان معظم رؤساء البلديات ينظمونه كما يريدون. ولا أحد ينسى كيف كان الرئيس رفيق الحريري يعترض على صلاحيات محافظ بيروت، ويريد تعيين مدير لبلدية العاصمة مما اضطر الرئيس صائب سلام الى اقناعه بالكف عن ذلك، لأن لمحافظ بيروت نكهة ميثاقية وأنه أعطي صلاحيات تفوق سواه من المحافظين، لأن الطائفة الأرثوذكسية لم تأخذ حصتها في المناصب الاساسية، فجرى التعويض عليها بصلاحيات محافظ العاصمة، وقد مثل الرئيس فؤاد شهاب هذا الدور بجدارة عندما اختار في حقبة الستينات الوزير والنائب السابق فيليب نجيب بولس محافظاً للعاصمة، بعدما تخلى عن منصب نائب الكورة.
معركة الجبل
الا ان معركة الجبل، كانت على مدى الايام الاخيرة معركة رئاسة الجمهورية لا معركة مدينة أساسية في هذه الجمهورية.
صحيح، أن الرئيس العماد ميشال عون والعميد شربل روكز كانا في صلب المعركة، الا أن رئاسة الجمهورية كانت واحدة من العناوين الأساسية فيها، ولا سيما قائمة السيد فؤاد البواري كانت في أساس الاختيار السياسي ضد الثلاثي الكسرواني المتمثل بالوزير السابق فريد هيكل الخازن والنائب السابق فؤاد البون والسيد نعمت افرام، الا أن الأساس في هذه المعركة، أن الرئيس ميشال عون هو نائب عن كسروان، ورئيس كتلة نواب كسروان – الفتوح، ولفوزه أو خسارته نكهة سياسية في المنطقة كافة.
ولا أحد يمكن أن ينسى أن صهر النائب نعمت افرام هو النائب عن منطقة جبيل وليد خوري، حليف العماد عون في دائرة كسروان – جبيل، فهل يقبل نعمت افرام أن يدفع ثمن معركة قد يربحها أو يخسرها بعدما رأس لائحة الانتشار حالياً، ورئاسة جمعية الصناعيين في كسروان؟
ويقول النائب عباس الهاشم إن العماد عون لا يقهر في منطقة أعطته أصواتها، ووقف وحده ضد التمديد للمجلس النيابي الحالي، وهو متمكن من الفوز، وحائز على أصوات الكثافة السكانية في المنطقة، التي تعبد الطريق امام فوز لائحة فؤاد البواري.
كان النائب الراحل فؤاد نفاع والنائب فؤاد البون حليفين وصديقين، وقوتين أساسيتين في المنطقة الى جانب النائبين الراحلين لويس ابو شرف ونهاد بويز، الا ان انتخاب الرئيس سليمان فرنجيه في العام ١٩٧٠ رئيساً للجمهورية، جعله يختار بعد مدة، النائب نفاع وزيراً للخارجية اللبنانية، ويذهب مع الرئيس تقي الدين الصلح الى القاهرة، لحضور مؤتمر وزراء الخارجية العرب.
وهذا ما يجعل العماد عون مرتاحاً الى المستقبل، ايماناً منه بأن معركته الآتية رئاسية لا نيابية.
والمعارك البلدية كانت حامية في دير القمر لأن الرئيس دوري شمعون يرئس تجمعاً سياسياً أورثه إياه والده الراحل كميل نمر شمعون، وأعطاه استشهاد شقيقه داني مغزى ونكهة سياسيين يمهّد له التفوّق على سواه.
وفي حقبة الثمانينات ترشح دوري شمعون لرئاسة بلدية دير القمر، وأعطته مدينة كميل شمعون نصراً كبيراً لا يجارى في أي معركة.
في حقبة الستينات، ترشح كميل شمعون للنيابة في الشوف، على رأس لائحة مناوئة للأستاذ كمال جنبلاط وعندما وصل الى عرينه، فاجأ أهالي دير القمر بأنه لم يأت لهم بأسماء لائحته مطبوعة على ورق. مما جعل ينتظر ساعتين لوصولها، وخسر المعركة على ١٢٥٥ صوتاً في القضاء، لأنه خاض معركة سقوط لا معركة فشل أو نجاح.
صعد فريق من دير القمر الى المختارة، فوجد كمال جنبلاط يتناول ترويقته، وبادرهم بأنه وإبن شمعون في خصومة شريفة، وان من يفوز في الانتخابات يرسل له موفداً من أجل تهنئته.
يومئذ، كان كميل شمعون بحاجة الى نكسة سياسية في العام ١٩٦٤، لأن فؤاد شهاب كان مناوئاً له، وكانت تلك النكسة، الثمرة الناضجة لمعاركه الرابحة في العام ١٩٦٨، مع ريمون اده وبيار الجميّل، تحت عنوان الحلف الثلاثي المناهض لجمال عبدالناصر، بعد انكفائه عن سوريا الى مصر، وحلّ الجمهورية العربية المتحدة.
يوم الأحد الفائت، انتصرت الأحزاب على العائلات في معركة زحلة، وكسب العماد عون والدكتور سمير جعجع المعركة، لأن حزب الله أيّد حليفه العماد عون، وقال السيد حسن نصرالله، انه اذا كان ملزماً بتأييد حليفه، فهو ليس ملزماً بتأييد حلفائه.
إلاّ أن المعركة الآن في كسروان ودير القمر، غيرها في زحلة، لأن التيار والقوات مختلفان في هذه المواجهة، ذلك ان حزب القوات أيّد نعمت فرام في كسروان، وهذا ما جعله في مناوأة مع حليفه السياسي، بيد ان التحالف بين الجنرال والحكيم خلق حلفاً تصعب مواجهته في المستقبل، وان تردّى الآن في خصومة غير مدروسة بعد، من جانب الفريقين.
أعجوبة سياسية
في ٢٠ كانون الأول ١٩٧١، عقد اجتماع ضمّ ياسر عرفات وأبو حسن سلامة عن المقاومة الفلسطينية، والعميد موسى كنعان والعقيد جول البستاني والعقيد أحمد الحاج عن الجيش اللبناني في منزل العقيد ديب كمال، وأكد أبو عمار للعسكريين اللبنانيين رغبته في الوصول الى حلّ للأزمة، وتأكيد ثقته بالجيش اللبناني.
بعد القمة السنّية التي عقدت في اليوم السابق، عقدت القمة المارونية في مكتب الرئيس كميل شمعون في قصر بعبدا، وبحثت الوضع من مجمل جوانبه. وتجاوز الأقطاب الموارنة قضية المطالب الدستورية والاصلاحية المطلوبة ووضعوا في رأس الاهتمامات، قضية السيادة اللبنانية، ووصف الأباتي شربل قسيس الحلول المطروحة بأنها هزيلة وسطحية، وطلب الشيخ بيار الجميّل من اللبنانيين ان يختاروا أي لبنان يريدون، لبنان الشيوعي أو لبنان المسلم أو لبنان الاشتراكي أو لبنان المسيحي، وقال ان الجواب على هذه الأسئلة هو المنطلق لمستقبل لبنان.
وقد جرى البحث في ذلك الاجتماع في انشاء قيادة موحّدة تجمع بين الأحزاب والكتائب والرهبانيات، وكان الطابع المميّز هو تمسك الماروني باللاتساهل.
عاد العميد ريمون اده يومذاك الى بيروت، بعد أن أجرى سلسلة اتصالات في باريس، التي مرّ بها في طريق عودته من الولايات المتحدة. ومما قاله إنه يشعر بغثيان إزاء ما تعتزمه الولايات المتحدة حيال لبنان. وقال أيضا: إن الحكومة الأميركية ترى أن الأزمة اللبنانية هي مسألة تخصّ اللبنانيين أنفسهم وحدهم، واذا حدث وتمّ التقسيم، فإن الولايات المتحدة لن ترى فيه شيئاً داعياً للغرابة. وذلك يتعارض مع الرسائل التي سبق أن بعث بها الرئيس جيرالد فورد وهنري كيسنجر الى المسؤولين في الحكومة اللبنانية.
وقال: إن موريس كوف دومورفيل زار لبنان وقام بمهمة صداقة واستقصاء حقائق، واجتمع بجميع الأطراف، وأدرك تماماً ان المسألة ليست لبنانية بحتة. وأعرب عن اعتقاده بأنه من الضروري إجراء تعديل للدستور اللبناني لتحديد اختصاصات رئيس الحكومة. وأضاف: إن
النواب يستطيعون أن يقولوا كلمتهم في التعديل المقترح.
وقال: نحن لسنا في حاجة الى كل ذلك، نظراً لأننا لم نقتتل مطلقاً في لبنان من أجل أمور مماثلة، واننا اذا لم نتمكّن من وضع حدّ للمعارك فيما بيننا لأن هناك تدخلاً أجنبياً، فسيكون من واجب منظمة الأمم المتحدة أن تهتم بالموضوع المادتان ٣٤ و٣٥ من ميثاق الأمم المتحدة.
وردت معلومات عن رحلة العميد ريمون اده الى اميركا تفيد بأن اللقاء الذي جرى بين اده وجوزف سيسكو كان عاصفاً، وأنه عندما تحدث إده عن تقسيم لبنان وضلوع أميركا في مؤامرة التقسيم، انتفض سيسكو محتجاً على اتهامات العميد. وقيل بعد هذه الزيارة، إن أميركا ناصبت العميد اده العداء، لأنه اتهمها بتنفيذ المخطط القاضي بانشاء دويلات طائفية في المنطقة.