Site icon IMLebanon

خطاب وادي الحجير وقصة «المسيحية الجديدة» و«الشيعية القديمة المتجدِّدة»

ثلاث مرات قارب الشيعة فكرة التقارب مع الموارنة؛ مرة عندما وجد الامام موسى الصدر في الرئيس فؤاد شهاب فرصة ثمينة وغير مسبوقة، لدخول الشيعة الى الدولة. ومرة ثانية عندما برزت داخل حركة «أمل» بعد تغييب الامام موسى الصدر، تيارات كيانية (مثل حسن هاشم) رأت خلال الحرب الأهلية، أنّ هناك مصلحة للشيعة في «استراتيجية السلم» وعلاقة قربى كيانية مع الموارنة. ومرة ثالثة عندما اجتمع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله ورئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون في كنيسة مار مخايل ووقّعا تفاهماً باسمهما.

في كلّ مرة من هذه المرات الثلاث، كانت هناك فكرة موجبة لإبرام هذا التقارب التحالفي: خلال زمن الصدر، كان الأخير يريد سحب الشيعة من صفوف اليسار الى داخل شراكة في تركيبة «دولة لبنان الطوائف».

وتقاطع معه في تحقيق هذا الهدف فؤاد شهاب الذي أراد أيضاً أن تستردّ الدولة «شيعة لبنان»، وتنشِئ بهم توازناً جديداً داخل مجمل «اجتماع الطوائف السياسي اللبناني». لقد انقطع مسار هذه التجربة، بخروج الشهابية من الحكم وبتغييب الصدر، ولكنّ حركة «أمل» ظلت تُعبّر عن معناه الى حدٍّ ما.

ففي آخر فترات الحرب الأهلية، برز عاملان تضافرا على توسيع شقّ التباعد بين الشيعة والفلسطينيين: أوّلهما التجاوزات الفلسطينية في الجنوب؛ وثانيهما منافسة حركة «أمل» للفصائل الفلسطينية وأحزاب اليسار اللبناني على استقطاب الشيعة وجذبهم الى مشروع الطائفة السياسية.

آنذاك ثمّة مَن حاول داخل حركة «أمل» أخذ الخلاف مع الفلسطينيين الى نقطة أبعد، وذلك عبر التنظير لفكرة أنّ الشيعة والموارنة باتوا في موقع واحد إزاء الدفاع عن لبنان في وجه الفلسطيني الذي «يريد التوطين والتجاوز ويمنع قيام الدولة اللبنانية».

اعتبر هؤلاء حينها أنّ مصلحة الشيعة تكمن في تفاهم مع الموارنة يُرسي سلماً أهلياً يوظّفه الشيعة في الحفاظ على ثقلهم الديموغرافي في البلد. سميت هذه النظرية آنذاك اصطلاحاً «الاستراتيجية السلميّة» التي حذّرت من أنّ استمرارَ الحرب الأهلية تهجّر الشيعة من ديموغرافيات لبنانية مختلطة وحساسة، بينما السلم يحافظ على هذا الوجود ويؤدّي لنموِّه تفاعلاً، وحصد مكاسب تُعزّز موقعهم الذي ينشدونه داخل الشراكة في الدولة.

انقطع كلّ هذا المسار الآنف، بفعل انتقال دور سوريا في لبنان من متدخلة الى راعية لكلّ معادلاته واستتباعاته على مستوى انتظام الشيعة داخل معادلة تقاسم الأدوار بين حركة «أمل» و»حزب الله».

المرة الثالثة لا تزال وقائعها مستمرة حتى الان؛ وتتمثل بتفاهم كنيسة مار مخايل بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله». ثمّة ملاحظات مفتاحية تتيح فهم هذا التحالف، وتظهر موقعه داخل كلَّ مسار المحاولات الشيعية السابقة لبلورة فكرة تحالف او تقارب او فتح صفحة جديدة مع الموارنة.

تتمثل أولاها في أنّ إرهاصات تقارب «الحزب» مع العونيين، بدأت عندما كان عون في المنفى. والفكرة لم تكن لبنانية مطلقة، بل أطلقتها نخب فرنسية لبنانية مختلطة موجودة داخل بيئات بحثية على صلة بوزارة الدفاع الفرنسية.

ويرى جوهر نظريتها أنّ إعادة نهوض لبنان لا تتمّ من خلال اعادة انتاج معادلة الحكم السابقة فيه؛ ذلك لأنّ التاريخ يقول إنّ المعادلة التي تسقط لا يمكن إحياؤها مجدَّداً، وبديلها هو إعادة انتاج صيغة جديدة لها، بمواد اجتماعية جديدة.

ورأت هذه النظرية أنّ الموارنة أصبحوا بفعل الحرب «طائفة هابطة» بموارد بشرية نخبوية، فيما الشيعة هم «طائفة صاعدة» بحيوية اجتماع فتية. وفي حال تمّ وضع إمكانات الموارنة النوعية التي تعاني من الاحباط، مع حيوية الشيعة الملفتة، لأمكن إعادة انتاج لبنان عبر شراكة بين مسيحية مارونية جديدة وشيعية قديمة متجدِّدة.

كان العونيون هم مادة المسيحية المارونية الجديدة المقصودة بهذه النظرية، فيما «حزب الله» هو المقصود بمادة الشيعية القديمة الصاعدة. ووصلت الفكرة إلى بيروت، وتمّ تجريبها بتحفّظ. وشهدت هذه المرحلة قبيل عودة عون إلى بيروت، تعاوناً لافتاً بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» في انتخابات النقابات. وعلى رغم أنّ هذا السياق كان متقطعاً، إلّا أنه خلف في اثره، إرثاً من المعرفة ولو المحدودة، بين الطرفين.

الملاحظة المفتاحية الثانية، يقع زمانها بعد انسحاب السوريين من لبنان عام 2005؛ آنذاك شعر «الحزب» بأنّ عليه أن يُقلع شوكه الداخلي بنفسه، فالغطاء السوري الداخلي انسحب عنه وصار مضطراً لإدارة مصالحه وحمايتها بنفسه داخل الدولة والواقع السياسي الداخلي في لبنان.

خلال هذه المرحلة ورد اسم عون مرتين في حارة حريك؛ الاولى عندما ناقش «الحزب» سؤالاً طرحه على نفسه: ما العمل داخلياً بعد انسحاب السوريين، وبأيّ تحالفات داخلية نُعوّض انسحاب الغطاء الاستراتيجي الداخلي الذي كانت تؤمنه دمشق؟!

آنذاك، كانت أحداث الشقاق السني – الشيعي في العراق، بدأت ترسل إشاراتها القاتمة عن خطر نشوب فتنة بينية إسلامية في المنطقة كلها. ساد حينها تقدير في بيروت يرى أنّ مخطّطي هذه المؤامرة يعملون لنقل الشقاق السنّي – الشيعي في العراق الى لبنان، لكي تتجاوز خصوصيّتها العراقية لتبلغ سمة انها فتنة في المنطقة كلها.

كان هذا التقدير واعتبارات أخرى، هما المسؤولان عن ولادة إقتناع لدى «الحزب» بضرورة انتهاج «سياسة سلم إسلامية» لبنانية داخلية، لتحصين «الساحة» التي تُصوَّب عليها المؤامرة، وهي الساحة الاسلامية؛ فكان التحالف الرباعي الاسلامي النزعة، وهو أمر أفاد منه عون في جعل المسيحيين يتجمّعون وراءه في انتخابات 2005 لكسر الحصار الاسلامي عليهم.

المرة الثانية التي ورد فيها اسم عون داخل الحزب، تمّ أيضاً اثناء نقاشه ذاته في مناسبة خروج السوريين وانعكاساته الاستراتيجية داخلياً، عليه. هذه المرة طرحت مفاضلة بين عون والنائب وليد جنبلاط، وذلك عبر صيغة سؤال يقول: «مَن هو الحليف الافضل للحزب بينهما؟»

تميّز نقاش المفاضلة بفتور تجاه عون، فجنبلاط أقله لم يذهب الى مجلس الشيوخ الاميركي ويطالب بالقرار 1559، وجنبلاط على رغم توجّس الحزب منه، لكنه يعرفه ويمكن له أن يتكهّن مسبقاً كيف سيتصرّف في المستقبل؛ أما عون فغير معروف لدى الحزب ولا يمكنه أن يحتسب لمستقبل علاقته به فيما لو تحالف معه. وفي المحصلة، تمّ تفضيل جنبلاط، نظراً لأنّ اسقاط خيار عون بدا مبرّراً بألف سبب وسبب.

الملاحظة الثالثة تتعلق بظروف ذهاب السيد نصرالله إلى خيار كنيسة مار مخايل وأيضاً بظروف قرار عون ملاقاته داخل هذه الكنيسة الواقعة عند طرف الضاحية الشيعية لجهة حدودها مع المنطقة الشرقية المسيحية؛ وعليه كان لموقع هذه الكنيسة رمزيتها في حدث تفاهمهما.

أبرز هذه الظروف، تمثلت بارتياب ساد مسار تجربة الحزب مع «المستقبل» داخل الحلف الرباعي، وبفشل طاول تجربة عون للانفتاح على «المستقبل» عشية انتخابات العام 2005. لقد شكلت نظرتهما الى تيار «المستقبل» نقطة التقائهما عند حاجتهما، كلٌّ لأسبابه، لإعادة خلط الأوراق الداخلية، علّها تنتج لهما فرص حماية، وتُحقّق لهما منصات انطلاق جديدة لإحراز مكاسب سياسية اكثر من تقليدية.

في خطابه الأخير، استذكر نصرالله مصطلح «الخوف والغبن»، ومسؤوليته عن رسم بسيكولوجيا الحياة السياسية اللبنانية. هذا المصطلح وقف بنسبة عالية وراء تفاهم مار مخايل: خوف الشيعة من انسحاب الغطاء السوري الداخلي عنهم وخوفهم من فتنة آتية من العراق تضعهم وجهاً لوجه امام الغلبة الديموغرافية السنّية في المنطقة. و»غبن» شعر به الماروني العوني داخل نظام «الطائف» خلال نفي عون وبعد مجيئه من خلال تشكّل الحلف الرباعي الاسلامي الانتخابي.

الحق يُقال إن لا عون ولا نصرالله توقّعا بداية أنّ مسار مار مخايل، سيصل بتفاهمهما الى «حلف مقدَّس». يعلن عون الآن أنّ حلفه مع نصرالله اكبر من سياسي وأنه مكثف أخلاقياً الى درجة أنّ الكلام لا يستطيع حمل معناه وتفسيره.

ويقول نصرالله إنّ وقوفه الى جانب عون قضية أخلاقية وإنسانية وأبعد من سياسية. وليس خافياً أنّ القضية الاخلاقية التي يؤشر اليها الرجلان لتوصيف حلفهما، تشي بأنّهما موجودان في مصادفة تاريخية جعلتهما يلتقطان كيمياء أنهما من مركّب واحد على مستوى الشعور السياسي والانساني والاجتماعي.

وغالب الظن أنّ المسؤول عن وصول هذا الشعور المشترَك إليهما، هو خلفيات مشترَكة قديمة موجودة في جينات الإقامة الشيعية والمارونية داخل الملجأ اللبناني. ربما الامام الصدر وفؤاد شهاب قاربا في لحظة تعاونهما القصيرة هذه المشاعر التي تثيرها محاولات تجريب إدخال الشراكة السياسية في البلد الى معنى أبعد من معناه السياسي التقليدي.

فطنة نصرالله

وبإسقاط هذه العوامل الماضية، على العوامل اللبنانية الراهنة، يتّضح مرة جديدة أنّ نصرالله يفطن عند الضرورة للمصطلحات الثمينة (الغبن والخوف). فتطويب تفاهم مار مخايل بالهالة الاخلاقية وبالعلاقة المقدَّسة وبتثبيت «النعمة الإلهية» على نصر تموز؛ كلها إشارات إلى اعتماده مقاربات إبداعية لاختراق واقع سياسي داخلي آسن ومغلق.

فـ»الاخلاقية فوق السياسية» التي طوّب السيد علاقته مع عون بها، إنما تريد تحقيق غير هدف: منها تأكيد ملمح الوفاء داخل إطار صورته السياسية العامة وبضمنها اللبنانية، ومنها أيضاً إحداث صدمة ايجابية لتفاهم مار مخايل الذي اعتراه أخيراً داخل قواعد «التيار» خفوتاً في بريقه، الى درجة أنّ عون زلّ لسانه معترِفاً به، حينما كشف أنه منع داخل أسرته تداول سؤال شاع عما إذا كان حليفه نصرالله يفعل شيئاً له في شدّته السياسية.

ويقع هدفه الآخر في سياق أنّ نصرالله يُدرك أنّ التيار العوني يمرّ بلحظة انتقال من العونية الى الغموض حول قيادته الجديدة. وضمن هذه الجزئية لا يفوت السيد أنّه على رغم مرور نحو عقد على تفاهم مار مخايل إلّا أنّ مفاعيله التحالفية لا تزال فوقية وتنحصر بعلاقة «مقدَّسة» بينه وبين عون، أما قواعدهما فلا تزال علاقاتهما بعيدة عن هذا المعنى المقدَّس أو حتى عن المعنى التحالفي الأعمق من أنه انتخابي.

وعلى هذا فإنّ اهمية خطاب وادي الحجير الذي كثف فيه نصرالله التزامه بحليفه، ونقل فيه كلاماً للامام عبد الحسين شرف الدين (1873- 1957) عن الإخوة مع المسيحيين، تقع في أنه اختار لحظة نموذجية لمخاطبة القواعد العونية المحتاجة لحليف، نظراً لأنها تمرّ في وقت تشعر فيه بانسداد الجهات السياسية الأربع في وجهها، وبأنها تخوض مواجهة نجَح عون في تصويرها لها، بأنها تهدف لكسره وحصاره وإلغائه.

في المختصر إنّ نصرالله أراد لمفاعيل خطاب وادي الحجير، أن تؤدي الى إبرام «تفاهم مار مخايل 2» بمزايا مقدَّسة، ولكن هذه المرة ليس بينه وبين عون فقط، بل بينه وبين قواعد «التيار» المنفتحة حركة وعيها في هذه اللحظة على استقبال دعم الحزب لها، وتخزينه في ذاكرتها، بصفته «هدية تاريخية» وعربوناً لصداقة مقدَّسة بينها وبين «حزب الله» في الوقت الصعب، وذلك على غرار ما هو قائم بين السيد والعماد.

نصر الله في خطاب وادي الحجير بدا مصمّماً ناجحاً لما يمكن تسميته «الاخلاقية الاستراتيجية» في السياسة اللبنانية التي تمكّنه من «وصل وعي وجداني» بينه وبين طوائف، وليس فقط بينه وبين زعامات.