بدا واضحاً أنه مع كل الضربات التي يتلقاها تنظيم داعش الذي تحّول من تنظيم يحاول اجتراح دولة خلافة مزعومة في مناطق التوتر بالعراق وسوريا٬ ثم إلى منظمة عالمية بخلايا في كل مكان تقريباً في العالم٬ إلى مصب الآن لاستقبال رجيع الجماعات المسلحة سواء من «القاعدة» أو المجموعات المقاتلة القادمة من تجارب؛ مثل ليبيا والمغرب العربي واليمن وسيناء٬ وكل المناطق التي نشأت فيها تجارب قتالية وتدريبية بشعارات وأهداف مختلفة٬ وفي الوقت ذاته يحاول التنظيم تكوين مزيد من الخلايا الصغيرة في دول غير نشطة على مستوى النشاط المسلح مثل الهند وإندونيسيا؛ ليثبت بهذا التحول الكبير من تنظيم مقاتل متماسك إلى مظلة تجمع كل الغاضبين والحانقين على بقاء الأوضاع السياسية معلقة٬ وكل هواة الإرهاب ممن يرغبون في خوض التجربة القتالية إما خلاصاً وإما رغبة في التغيير ولو بشكل عنيف ودموي٬ كما رأينا في الخلايا المتناثرة في أوروبا وفرنسا بشكل خاص.
استهداف الأقباط اليوم في مصر مؤشر خطير جداً ليس فقط على تحول شمال سيناء والعريش إلى منطقة غير آمنة للأقليات٬ بل وللتحالف الظاهر للعيان بين أنصار بيت المقدس والمقاتلين المحليين مع خطاب «داعش» العام وتكنيكاته في القتل المروع والذبح والحرق٬ وهي باتت أشبه بالبصمة الداعشية التي تستخدمها بعض الجماعات للتمويه على هويتها٬ أو لكي تحسب النتائج المذهلة التي من شأنها أن تتحول إلى أخبار أولى في شاشات التلفاز كدعاية مجانية للتنظيم٬ وإعادة البناء واستقطاب الكوادر في ظل وجود ملاءة مالية٬ بعد أن تغافل المجتمع الدولي عن هذه التنظيمات طيلة الفترة السابقة بعد الربيع العربي٬ ولم تستيقظ إلا بعد أن غير التنظيم استراتيجيته من العمل المحلي في مناطق التوتر وتحشيد المقاتلين لهدف واحد وهو دولة الخلافة المستحيلة؛ ليعود باستراتيجية انتقامية جديدة (انبعاث الخلايا) محاولة القيام بأعمال إرهابية لإعادة لفت الأنظار للتنظيم في محاولة للتغطية على الإخفاقات الكبيرة في مناطق التوتر الأصلية٬ وهي استراتيجية تعني التخلي عن نصف شعارها الأثير لدى الأتباع٬ فهي قد لا تكون باقية بطريقة ما في مناطقها الأصلية٬ لكنها حتماً تتمدد على مستوى خلق مناطق جديدة٬ وهو ما نفهمه من تصريحين خطيرين في الأيام الماضية لتنظيم داعش؛ التصريح الأول جاء على لسان الخليفة المزعوم زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي٬ حيث حث مقاتلي التنظيم على عدم الانسحاب أو الهرب من مواجهة القوات التي تهاجم معقله في العراق بالموصل٬ من جهة ثانية تحدث بسخرية شديدة من التحالف الأميركي الشيعي كما وصفه لأهداف تحشيدية؛ ليؤكد أن التنظيم سينتقل قريباً إلى معركة تحرير القدس٬ وهو مؤشر جديد يدل من جهة على الضربة الموجعة للتنظيم٬ كما أنه يشير إلى التحول في التصريحات لاستقطاب المقاتلين عبر رفع شعار الطائفية والحرب ضد الشيعة٬ واستغلال التعاطف الإسلامي مع قضية القضايا «فلسطين».
تهجير الأقباط من مدينة العريش٬ قرابة 40 أسرة بحسب التقارير الغربية٬ وفي الإسماعيلية المدينة الأقرب إلى شمال سيناء؛ حيث أعلن المسؤول الإداري للكنيسة الإنجيلية الشماس نبيل شكر الله أن قرابة 250 مسيحياً فروا من شمال سيناء إلى الكنيسة٬ كل هذه الأنباء المتفرقة تعني أن ثمة بداية لاستراتيجية جديدة تستهدف الأقليات الخاصرة الهشة والضعيفة عادة للدول٬ والملف الملتهب والساخن بالنسبة للدول الغربية والمنظمات الحقوقية والمجتمع الدولي إجمالاً٬ وهو ما أدركه تنظيم داعش٬ ولا يمكن إنهاء هذا الملف ببيانات التنديد أو التغافل عن حجم وضخامة المشكلة باعتبارها مشكلة جهوية متكررة٬ فما يحدث هو استهداف مباشر للأبرياء وبشكل فردي٬ فخلال أسبوع واحد شهدت مدينة العريش حالات قتل وذبح واغتيال لعدد من الشخصيات القبطية أطباء وصيادلة وتجاراً وحتى مدرسين وباعة يقتلون على الهوّية الدينية لا لشيء إلا لتحويل المنطقة إلى منطقة توتر وأزمة؛ تستغلها التنظيمات الإرهابية المحلية لصالح تنظيم داعش في تحالف على الموت والخراب والدمار.
تنظيم داعش لم ينتظر طويلاً للتكهنات والبيانات٬ فأصدر بياناً يعبر فيه عن رسالة تهديد لمن وصفهم بالصليبيين في مصر٬ ونشر تصويراً متلفزاً على طريقته لحادثة تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة في ديسمبر (كانون الأول) الفائت الذي قتل فيه 28 شخصاً٬ كما أن أفراد التنظيم في العريش حرصوا على كتابة عبارات «ارحل» على منازل الأقباط في المنطقة بهدف الترويع وحثهم على إخلاء المنطقة٬ في ظل تساهل من قبل سكان المنطقة من القبائل التي انخفض لديها منسوب التعايش مع الأقليات؛ لأسباب سياسية وتاريخية واقتصادية تتعلق بالفرص والموارد. وفي حوار مع بولس حليم المتحدث باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هناك نحو 1700 شخص٬ ما يعني أن من خرج من العريش حتى الآن نحو 30 في المائة من المسيحيين بحسب إفادته وهو رقم كبير وغير مسبوق.
المصريون اليوم بحاجة إلى تكاتف ضد الإرهاب في مقابل التحالف بين التنظيمات المحلية المسلحة والمتحولين إلى مربع العنف بعد فشل الإسلام السياسي مع تنظيمات دولية مثل «داعش»٬ وعلى المعارضين أو المتحفظين على أداء الحكومة أن لا يستغلوا ملف الأقباط بهدف تسييسه وتحويله إلى كارت معارضة من شأنه إضعاف الدولة٬ فالوضع أخطر من المكاسب السياسية الضيقة في بلد تخطى موجات الإرهاب عدة مرات وهو قادر على تجاوزها هذه المرة.