IMLebanon

تباينات في إدلب

 

بات واضحاً أنّ إدلب معركة مؤجّلة، لأنّ كِلفتها على الجميع مرتفعة.

أنقرة الضامنة لتنفيذ اتفاق إدخال إدلب في منطقة خفضِ التوتّر بموجب تفاهمِها مع موسكو وطهران في أستانا، تتباطأ في حسمِ المعركة ضدّ «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقا) الطرف الأساس في إدلب، وبدل ذلك تعقد تفاهمات بين استخباراتها وبين جناح زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني.

فيما موسكو تتحفّظ عن تكتيكات أنقرة وتدعو الى الانتهاء من مناورة اعتبار أنّ في داخل «هيئة تحرير الشام» جسماً سوريّاً خارجاً من تنظيم «القاعدة»، يمكن تحويله طرفاً وازناً في المعارضة السورية، لا ينتمي إلى «الجهادية المعولمة».

هذا الموقف نفسه تتّخذه طهران التي تعتبر أنّ «هيئة تحرير الشام» كلّها «قاعدة»، ولا تعطي بالتالي وزناً لتصريح الجولاني في تمّوز 2016 الذي أعلن فيه فكَّ ارتباطه بـ«قاعدة» أيمن الظواهري.

وخلال الأيام القليلة الماضية، حدثت تطوّرات لافتة داخل «هيئة تحرير الشام»، وأيضاً داخل خطّ صلتِها بـ«القاعدة» الأم، وأيضاً داخل مستوى آخر متصل ويتعلق بجديد تموضعِ أنقرة داخل الأزمة السورية وفي معادلة محاورها الدولية والاقليمية.

وتفكيك سياق هذه الأحداث المتّصفة بأنّها انقلابية يمكن إدراجُها ضمن ثلاثة عناوين:

ـ الأوّل، إجتماع سوتشي بين رؤساء إيران وتركيا وروسيا، والذي انتهى الى توقّعِ أن يفضي قبَيل نهاية السنة الى قمّةٍ بين روحاني وبوتين والأسد وأردوغان. غير أنّ اتّصال الرئيس الاميركي ترامب بأردوغان، نُظِر إليه على أنه حدثٌ انقلابيّ أطاح مسارَ سوتشي لمصلحة عودة أنقرة الى مربّعِ المطالبة بإزاحة الأسد.

ـ الثاني، ساحتُه كواليس «هيئة تحرير الشام» التي شهدت في الأيام الأخيرة تصعيداً في حروب الأجنحة في داخلها، وتحديداً بين جناحين أساسيين: جناح الجولاني الذي يدعو الى «التكيّف» مع خصوصيات الوضع السوري، وإدارة الظهر لمشروع «القاعدة» الدولي. وترى نظرية الجولاني أنّه حتى يمكن تحاشي القرار الدولي بتصفية «النصرة» و«المعارضة السنّية» التي يمثّلها في سوريا، وخصوصاً في إدلب، فإنه يجب الاحتماء بتركيا لتجنّبِ أن يكرّرَ الروس والإيرانيون فيها ما فعلوه بحلب.

وبتوجيه من هذه النظرية بدأت اتصالات عشية دخولِ تركيا إلى إدلب بين المخابرات التركية وبين أجنحة في «هيئة تحرير الشام»، لتَلافي الصدام بينهما حتى تتجنّب إدلب التدمير والتهجير على نحوِ ما حصَل للسكّان السوريين السُنّة في الرقة وحلب.

وتحت ستار هذه النظرية تخلّى الجولاني عن موقفِه المعارض دخولَ تركيا الى مناطق المعارضة السورية وضمنها إدلب، الذي كان قد اتّخَذه عند بدءِ عملية «درع الفرات».

وأدّى هذا التحوّل في موقف الجولاني إلى اشتداد النزاع بين جناحه وبين جناحٍ آخر في «هيئة تحرير الشام» يؤمن بأصلِ انتمائه إلى «القاعدة -الأم» ويعارض أيَّ هدنة مع تركيا الأطلسية.

وقبل أيام انتهى أهمُّ مشهد في هذا النزاع بعدما نجَح الجولاني في اعتقال أهمِّ رموز «القاعدة» المعولمة داخل «الهيئة»، أمثال «ابو عبد الكريم» المصري والدكتور سامي العريدي و«أبو همام» السوري، وغيره.

وبعد يومين من ضربة الجولاني لجناح «القاعدة ـ الأم» داخل «هيئة تحرير الشام»، أصدر أيمن الظواهري تسجيلاً صوتياً هاجَم فيه إجراءات الجولاني ووعَده «بقتاله كالبنيان المرصوص».

والمشكلة بين الجولاني و«القاعدة ـ الأم»، تكمن في مجالين اثنين بحسب محلّلين متابعين لهذا الملف: الأوّل يعود إلى العام 2016 عندما أعلنَ الجولاني فكَّ ارتباطِه بـ«القاعدة» بمبرّر أنّ وجود تنظيمِه في سوريا تحت عنوان أنّه فرع من «القاعدة» في سوريا سيَجمع ضدّه القوى الدولية، الأمر الذي سيصيب كلَّ الكيان السنّي في سوريا بضررٍ كبير تفيد منه إيران وموسكو والنظام الذي يطلق عليه أنّه «علوي وروافض» ألخ..

أمّا المجال الثاني للخلاف الحالي بين الظواهري والجولاني فيتّصل بالموقف من تركيا، والأهمّ بدور تركيا فيه، وذلك ضمن ما يقال من أنّ أنقرة تؤسّس لتموضعٍ جديد داخل الأزمة السورية بدت إرهاصاتُه قبل أيام من خلال عودة أنقرة الى مربّع المطالبة برحيل الأسد من جهة، واتّصال ترامب الهاتفي بأردوغان الذي أعاد إحياءَ إمكانيةِ اصطفاف أنقرة في سوريا داخل بُعدِها الأطلسي، وليس الإقليمي الذي استجدّ على سلوكها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان واتّهام الأخير واشنطن بالتورّط فيها.

وفي معلومات لـ«الجمهورية» مستقاة من مصادر في المعارضة السورية، أنّ أنقرة لا تزال تصِرّ في اتصالاتها مع أطياف المعارضة، على أنّها لا تلعب دور المحرِّض على ما يَحدث داخل «هيئة تحرير الشام»، وأنّ اتّصالاتها الأخيرة بالهيئة كانت جزئيةً وتصبّ في خانة تجنيبِ إدلب صداماً يؤدي إلى تهجير أهلها، نظراً إلى أنّ المصالح الأمنية العليا لتركيا لا تتحمّل هجرةَ مليوني مواطن من أبناء المدينة إلى الأراضي التركية.

ولكن في مقابل هذا الرأي هناك نظرية شائعة في كواليس الأجهزة الأمنية العالمية، تفيد أنّ ما يَحدث داخل «هيئة تحرير الشام «من جهة وبينها وبين «القاعدة الأم» التي يقودها الظواهري من جهة ثانية، يتّصل بتفاعلات تنتج من وجود مشروع داخل تنظيم «القاعدة» الدولي يتّجه إلى ملءِ الفراغ على «الساحة الجهادية العالمية «في مرحلةِ ما بَعد «داعش».

وفي التفاصيل، أنّ تنظيم «القاعدة» بدأ منذ أشهُر ورشةً مكثّفة لإعادةِ هيكليته التنظيمية العالمية على أساس بناءِ «إطار كامل» يسمّى «أنصار الفرقان». وكان الجناح المتشدّد في «هيئة تحرير الشام» الذي اعتقل الجولاني رموزَه في الأيام القليلة الماضية، قد بدأ يَعمل أخيراً لتجسيد خطة هيكلة «أنصار الفرقان» داخل بيئة «القاعدة «في سوريا، وذلك انسجاماً مع توجّهِ التنظيم الدولي لـ«القاعدة» لتعميمِ هذا الأمر فوق كلّ ساحاتها العالمية.

ولكنّ تحرُّكَ الجولاني السريع الذي يُقال إنّ تركيا تدعمه، أدّى إلى ضربِ خطة تمدّدِ هيكلة «القاعدة» إلى سوريا ضمن إطار «أنصار الفرقان». وهذا ما يفسّر ظهورَ تسجيل الظواهري السريع المندّد باعتقالات الجولاني والمتوعّد بردٍّ عنيف عليه.

وهذا ما يفسّر أيضاً حجم الاستجابة السريعة، وشِبه الواسعة، لكلام الظواهري ضدّ الجولاني بين صفوف «هيئة تحرير الشام» والتي تجسّدَت بحصول انسحابات من صفوفها. إضافةً إلى شيوع ذَمّ الجولاني على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بـ«القاعدة».

أمّا العنوان الثالث الذي تندرج في إطاره هذه التطوّرات فيتلعق بتباينات أساسية بدأت تُواجه انسجامَ القوى الثلاث الضامنة لتفاهمات أستانا حول مناطق خفضِ التوتر، وخصوصاً في المنطقة الرابعة في إدلب.

ومصدر هذا التباين أنّ أنقرة بدأت تنفيذ أجندة خاصة بها في شمال سوريا غير تلك التي اتّفقت عليها في أستانا مع روسيا وإيران، وفي حين أنّ إزاحة «النصرة» من إدلب هي الهدف، بحسب إيران وروسيا، فإنّ تفكيكها والاحتفاظ بالجزء السوري منها غير التابع لـ«القاعدة» أو الذي أعلن انفصاله عنها، هو هدفُ تركيا في منطقة الشمال السوري التي توجد فيها «لجان الحماية الكردية» في عفرين التي لم يتمّ بعد توحيد وجهات النظر حول طريقة التعامل معها بين موسكو التي تقدّم لها الحماية وأنقرة التي تريد توسيعَ تمدّدِها العسكري للسيطرة عليها.