IMLebanon

بارولين: لرئيس إصلاحي مَحضون من بيئته

 

 

عاد وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالنت من واشنطن، وانتقل الرئيس الأميركي جو بايدن الى منتجع كمب ديفيد حيث خضع لعزلة لعدة أيام نزولاً عند نصيحة فريق الخبراء، تحضيراً لمناظرته مع الرئيس السابق دونالد ترامب مساء اليوم. ما يعني أنه انقطع عن العالم وتطورات الشرق الأوسط.

في العادة كان تدريب الرؤساء على طريقة خوضهم المناظرات الرئاسية يحصل في البيت الأبيض. لكنّ حدّة المنافسة والأخطاء المتعددة التي ارتكبها بايدن وسط تركيز ناجح لفريق ترامب عليها فرض حصول هذه العزلة بعيداً من مشاغل البيت الأبيض. فعمر الرئيس والخشية من ارتكابه أخطاء جديدة قاتلة خلال المقابلة، خصوصاً أنه يواجه خصما لا يرحم لا بل يريد العودة الى البيت الأبيض للإنتقام، كلّ ذلك فرضَ هذه العزلة. وصحيح أن ترامب لا يصغر عمره كثيرا عن بايدن، لكنه مُفعم بالحيوية بعكس خصمه. وتكفي الإشارة الى أن نحو 70% من الحزبيين الأميركيين يفضّلون مرشحين آخرين.

 

وعدا عن غياب القرارات الكبرى في ظل خروج الرئيس عن السمع، إلا أن التركيز الكبير الحاصل يعكس حدة المنافسة والمشاريع المتناقضة وسط تقارب النتائج. ولهذا توترت إدارة بايدن الى الحد الأقصى حين صدر تصريح لنتنياهو يتهم فيه الإدارة الأميركية بوقف تزويد إسرائيل بالسلاح. وهذه نقطة حساسة جداً للوبي اليهودي حتى ولو كان معارضا لسياسة نتنياهو. فالمسألة يصبح طابعها وجودياً بالنسبة اليه خصوصاً أن الحرب ما تزال مشتعلة. وفهمَ بايدن أنّ نتنياهو دخل علانية ومباشرة على خط الإنتخابات مُقدماً ورقة ثمينة لترامب.

 

وغالانت، الذي طار الى واشنطن حاملاً مهمة إعادة ترقيع العلاقة مع الإدارة الأميركية وتأمين إعادة شحن الأسلحة والذخائر، قال في ختام زيارته انّ تركيز الخطاب السياسي الإسرائيلي والتخطيط الإستراتيجي يتحول الى لبنان.

 

وكان نتنياهو قد سبقه بالقول انّ الحرب المكثّفة مع «حماس» على وشك الإنتهاء. وتابع قائلاً انّ هذا لا يعني أن الحرب على وشك الإنتهاء، وملمحاً الى أنّ المعركة التالية ستكون مع لبنان.

 

لكن رأي واشنطن ما زال معارضاً لقرار الحرب. فالسفير الأميركي في إسرائيل قال انّ حل التوترات مع «حزب الله» أقرب مما يعتقد، لكن التهدئة في غزة ضرورية لكي يحدث ذلك. وكذلك فإنّ مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي قال في السياق نفسه تقريباً ان إسرائيل ستحاول حل النزاع مع لبنان في الأسابيع المقبلة، ومن الأفضل أن يكون ذلك عبر الديبلوماسية.

 

ولا جدال في أن نتنياهو المحاصَر داخليا ودوليا يرغب بالحرب في لبنان. فهو ينشد استهلاك الوقت لإنقاذ رأسه والقضاء كلياً على آمال بايدن الإنتخابية، وأيضاً السعي الى نسف التفاهمات التي حصلت وما تزال في كواليس سلطنة عمان بين واشنطن وطهران. لكن حائط الصَد الأميركي ما يزال قادرا على منع «جنون» نتنياهو، إضافة الى النقمة الداخلية المتصاعدة ضده، والتي بلغت أخطر مراحلها من خلال النزاع الدائر بين رئيس الحكومة الإسرائيلية وقادَة الجيش الكبار. فليس تفصيلاً الإتهام الذي تفوّهت به زوجته سارة بأنّ الجيش يحاول تنفيذ انقلاب عسكري ضد زوجها. وقبل سارة كان نجل نتنياهو قد صَرّح بشيء مشابه. ونتنياهو نفسه صرّح في إحدى جلسات الحكومة ضد قادة الجيش قائلاً «انّ إسرائيل هي دولة لديها جيش وليس جيشاً لديه دولة».

 

ووسط فداحة هذا النزاع بين القرار السياسي والآلة العسكرية يصبح من الصعوبة بمكان خوض حرب واسعة جديدة في لبنان. وجاء صدور القرار القضائي بتجنيد المتديّنين فوراً ليُفاقم من عوامل ضعف الحكومة الإسرائيلية.

 

ولا شك في أن نتنياهو يراقب بقلق المؤشرات التي تشي بوجود تفاهمات أميركية ـ إيرانية في بعض المناطق، والتي يعززها الكلام عن وجود تفاهمات مع «حزب الله» حول مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في جنوب لبنان. وهي المهمة التي أنجزها آموس هوكشتاين بعيداً عن الإعلام طوال الأشهر الماضية.

 

وثمة ما هو أكثر. فقائد قوات الحدود العراقية أعلن عن تحقيق تقدّم كبير في ملف تحصين الحدود الإيرانية ـ التركية بعد الإنتهاء من إبعاد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية عن الحدود العراقية ـ الإيرانية مطلع السنة الجارية. وهي مؤشر كبير الى نوع التفاهمات التي احتضنتها كواليس مسقط وطاوَلت ضمان الإستقرار الداخلي لإيران. وكذلك هي خطوة كبيرة خصوصاً في ظل المشكلات الداخلية الإيرانية وابتعاد شرائح أساسية عن النظام القائم وسط أزمة العقوبات الأميركية، على رغم من غَض النظر الأميركي عن ارتفاع بيع كميات النفط الإيراني عبر السوق السوداء.

 

وفي هذه الحال يصبح النجاح في تنفيذ التفاهمات حول ترتيبات الوضع عند الحدود اللبنانية مؤشرا إضافيا حول التفاهمات بين واشنطن وطهران في مسألة إعادة رسم خريطة النفوذ السياسي في المنطقة. هذا على رغم من الاكتشافات الخطرة في الأردن لتهريب أسلحة وتخزينها، وحيث تتهم السلطات الأردنية جماعات متحالفة مع إيران بأنها تقف وراءها، وبهدف هَزّ استقرار الأردن ما يفتح الطريق للوصول الى الضفة الغربية كجبهة بديلة عن غزة.

 

فالإدارة الأميركية تريد الإسراع في تثبيت هذه الترتيبات، ليس فقط بسبب صخب الحملات الإنتخابية واقتراب موعد فتح صناديق الإقتراع، بل أيضا بسبب استغلال روسيا والصين لانشغال الأميركيين بالحرب الدائرة في غزة وقيامهم بتثبيت أقدامهم في مواقع استراتيجية جديدة.

 

فلم تمض أيام معدودة على توقيع اتفاق طابعه أمني استراتيجي بين روسيا وكوريا الشمالية حتى أبحَرت حاملة الطائرات الأميركية «تيودور روزفلت» والتي تعمل بالطاقة النووية في اتجاه كوريا الجنوبية لإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع الدولة المضيفة واليابان. وعند الساحل الأفريقي زارت قطع بحرية حربية روسية ميناء طبرق الليبي والقريب من قناة السويس، وهو ما يعكس وجود علاقة تحالف متينة بين خليفة حفتر وموسكو، وسط معلومات عن سَعي موسكو لبناء قاعدة نووية في طبرق. فروسيا المهتمة جداً بتثبيت حضورها في البحر المتوسط تهدف في الوقت عينه الى إعادة هيكلة وجودها العسكري والاتخاذ من ليبيا قاعدة للتمدّد الى العمق الافريقي حيث تلاقي الحضور الإقتصادي الصيني.

 

لذلك تودّ واشنطن الإسراع في إقفال الشرق الأوسط للتفرّغ الى التحديات الحاصلة. ومن هنا علامات الاستفهام المتعددة حيال الخلفية الحقيقية لسعي نتنياهو الى إطالة أمد الحرب. ومن هنا أيضا سعي طهران للعب على عامل الوقت لانتزاع أكبر مقدار ممكن من المكاسب من الأميركيين. لكن الوقت ينفذ أيضاً من أمام طهران خشية عودة ترامب الذي جرى اختباره قبل أربع سنوات وجاءت النتائج كارثية عليها.

 

أما على مستوى لبنان فالمؤشرات تظهر بإنجاز الجزء الأكبر من التفاهمات حول ترتيبات ما بعد وقف إطلاق النار، وفق تصريحات الأميركيين وحتى الرئيس نبيه بري، والتي تعني أنّ هنالك شبه تفاهم قد حصل ولو بالخطوط العريضة بين واشنطن وطهران حول لبنان. وسبق لهوكشتاين ان اعلن بعضاً ممّا تم التفاهم حوله وتلاه بعد ذلك بساعات إعلان الرئيس الأميركي الكلام نفسه، وهو ما يمكن تفسيره بأنه ترجمة لمطلب ما بضرورة حصول التزام أميركي علني.

 

ومن المفترض أن يكون الفاتيكان في أجواء الترتيبات الجاري صوغها حول لبنان. ذلك أنه بات معلوماً أن الكرسي الرسولي يضع الملف اللبناني في طليعة الملفات التي يعمل على طرحها دوماً في العواصم المؤثرة وفي مقدمها واشنطن وباريس.

 

صحيح أنّ زيارة أمين سر دولة الفاتيكان المونسنيور بيترو بارولين لبيروت كانت مقررة منذ مدة طويلة ولأسباب راعوية، إلا أن كلامه تضمن عددا من الإشارات السياسية المعبرة.

 

والإشارة الأولى لبارولين كانت بتكراره التمسك باتفاق الطائف والمحافظة على الصيغة القائمة. وهو ما يعني رسالة في اتجاهين: الأولى في اتجاه بعض المسيحيين الذين يسعون للفدرالية أو ما شابه، والثانية في اتجاه بعض القوى الإسلامية التي تعمل لنسف الدستور المنبثق من اتفاق الطائف وإحلال صيغ جديدة.

 

والإشارة الثانية بدعوته الجميع مسيحيين ومسلمين الى الإنفتاخ بعضهم على بعض بلا استثناء، فالصدام المستمر سيؤدي الى خسارة شاملة وانتهاء الوطن. كما أن التمسك بالعيش المسيحي ـ الإسلامي هو نموذج للشرق الأوسط والعالم كله يجب حمايته.

والاشارة الثالثة أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون إصلاحياً ومحتضناً من بيئته المسيحية. أي أن لا يكون غريباً عن نبض الشارع المسيحي، وأن يتولى إطلاق مرحلة جديدة وأن يُعيد للمسيحيين دورهم، وهذا بمثابة خط أحمر. ذلك أن الفاتيكان شديد القلق من الإفراغ الحاصل للمواقع المسيحية الأساسية في الدولة، بدءاً من رئاسة الجمهورية وحاكمية مصرف لبنان وما كاد أن يحصل على مستوى قيادة الجيش، وهو ما يشكل خطاً أحمر يتعامل معه البعض بخفة وأنانية قاتلة. وبالتالي يجب الذهاب لانتخاب رئيس للجمهورية وأن يبادر المسيحيون في هذا الإتجاه على رغم من أن المشكلة وطنية وتقع على جميع الأطراف وليس على المسيحيين وحدهم.

 

أما الاشارة الرابعة فهي بالدعوة الى الحَد من الإنقسامات المسيحية والتي يلعب على وترها كثيرون، مشيراً الى وجود تحامل عليهم في كثير من النواحي ولكن ليكونوا هم السبّاقون الى طرح الحلول والأفكار بعيداً عن الأنانية.

 

ولا ينسى بارولين الإشارة الى الفساد والضرورة الملحة لمعالجته واجراء الإصلاحات الجذرية بما يتناسب مع المرحلة، مشيراً الى دور الكنيسة في هذا المجال.

 

صحيح أن بارولين لم يحمل معه مبادرة، إلاّ أن الأفكار والملاحظات التي طرحها لا يجب وضعها في إطار تمنيات الفاتيكان وآماله، بل في سياق التواصل الفاتيكاني ـ الأميركي الدائم والحثيث، والذي يرتكز على ديبلوماسية الفاتيكان الصامتة ولكن الفاعلة التي اشتهرت بها، وتضع لبنان والخطر على آخر وجود مسيحي في الشرق في أولوية اهتماماتها.