لم تشخص أنظار المسيحيّين المشرقيّين يوماً إلى الفاتيكان كما هو حاصل اليوم.
التأكيد، شَكّلَ الكرسي الرسولي على الدوام مرجعاً روحيّاً، وإلى حدٍّ ما سياسيّاً، لمسيحيّي الشرق الأوسط، لكن مع التهديد الوجودي الذي طاوَلَ حضورَهم وأدّى إلى محوِهم في العراق، أضحَت المناطق المسيحية، خصوصاً في سوريا وإلى حَدٍّ بعيد في لبنان، تبحَث عن حماية دولية لإجهاض اقتلاع المسيحيّين من أرضِهم.
ومن الطبيعي أن يكون الكرسي الرسولي هو المرجعية الدوليّة، كونه مرجعية كاثوليك العالم، إضافةً إلى القدرات والعلاقات الدولية التي يتمتّع بها خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، حيث بدَت الكتلة الكاثوليكية المؤلّفة خصوصاً من مهاجري أميركا الجنوبية مؤثّرة جداً، وهو ما ظهَر مع وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض والتجديد له.
وبدا أيضاً أنّه مع وصول البابا فرنسيس إلى سدّة البابوية، ضُخَّ دمٌ جديد في شرايين الديبلوماسية الفاتيكانية. فالآتي من الرهبَنة اليسوعية التي تتميّز بقدراتها وعلاقاتها القوية، والذي اختار له اسمَ القدّيس فرنسيس مؤسّس أكبر الرهبانيات الكاثوليكية في العالم، وضعَ في رأس أولوياته محاربة الخطر المحدِق بمسيحيّي الشرق.
صحيح أنّ أمام البابا فرنسيس مهمّة أولى وعاجلة تتعلّق بإصلاح الكنيسة من الداخل وسط شائعات كثيرة عن المصرف الذي يملكه الفاتيكان ووجود ملفّات ماليّة وأخلاقية ستُعالَج بحزم وحكمة، وهو ما حدا بالبابا إلى وصف جسم الكنيسة بأنّه كمَن يعاني من مرضِ «الباركنسون»، إلّا أنّ هذه الأولويّة المُلِحّة لم تحجب الخطرَ المحدِق بأرض مهد المسيح.
ويُروَى أنّ اللقاء الرسمي الأوّل الذي عقدَه البابا بعد تسلّمِه مهمّاته الرسمية، كان مع الرئيس الإيطالي، انسجاماً مع الأعراف والتقاليد، وشهد طرحَ الوجود المسيحي في الشرق الأوسط والمخاطر الوجودية، إضافةً إلى موضوع لبنان الذي يكاد ينهار تحت وطأة تداعيات الحرب السورية وتدفّق اللاجئين إلى أرضه.
وتروي مصادر الفاتيكان أنّ الحَبر الأعظم طلب من السفير البابوي في الولايات المتّحدة الاميركية التواصل على عجَل مع الإدارة الاميركية والضغط عليها في هذا الإطار.
وفي إطار تعييناته الداخلية، عيَّنَ البابا الكاردينال بيترو بارولين في موقع أمين سِرّ دولة الفاتيكان والذي يشبه موقع رئاسة الحكومة. أمّا التعيين اللافت، فكان تعيين الأسقف بول ريتشارد غالامير في موقع وزير الخارجية، وهي المرّة الأولى التي يوَلّى فيها هذا الموقع رجل دين انكليزي، بعدما درجَ العرف خلال العقد الماضي على أن يكون وزير الخارجية فرنسياً.
لكنّ المعروف عن غالامير أنّه أكثر رجال الدين الكاثوليك تمرُّساً ومعرفةً، خصوصاً في قضايا الشرق الأوسط، فيما نُقِل الأسقف دومينيك مومبرتي إلى موقع رئيس القضاء.
والمعروف عن غالامير أيضاً أنّه كسبَ كثيراً من الخبرة الديبلوماسية التي يمتاز بها الكاردينال جان لوي توران، بعدما عملَ معه وساعدَه خلال عمله على رأس الديبلوماسية الفاتيكانية.
وتحتَ هذه العناوين، يحاول الفاتيكان تفكيكَ خطر الأزمة السياسية التي تخنق لبنان، والتي تتركّز بشكل أساسي على الاستحقاق الرئاسي.
صحيحٌ أنّ للفاتيكان هموماً كثيرة في لبنان، لكنّ ذلك لا يحجب أولوية وصول رئيس جديد إلى قصر بعبدا. ولم يعُد سرّاً سعي الفاتيكان بعيداً عن الإعلام مع باريس وواشنطن وعواصم أخرى بما فيها موسكو، إلى إنجاز الاستحقاق وتأمين ظروف حصوله.
وحين سألَ زوّار السفير البابوي في لبنان غابريال كاتشيا عن خلفية ما نُقِل عنه في شأن ولادة الرئيس اللبناني في شهر آذار المقبل، أجاب بأنّ السياق الذي نُقل فيه الكلام لم يكن دقيقاً، لكنّه أملَ أن تُثمر الجهود الدولية والداخلية لانتخاب رئيس جديد.
والواضح أنّ الكرسي الرسولي يتابع عن كثب الحوارَ الذي بدأ بين تيار «المستقبل» و»حزب الله»، وهو أيضاً في الأجواء التفصيلية لتحرّك الموفد الفرنسي جان فرنسوا جيرو الذي سيستأنف حركتَه المكّوكية بعد عطلة رأس السَنة، وهو ليس ببعيد عن الدور الروسي في هذا الإطار.
ذلك أنّ الكواليس الديبلوماسية، وعلى رغم عطلة الأعياد، تضجّ بالأخبار حيال ضرورة إنجاز حلّ في لبنان، ولو أدّى ذلك إلى حصول ضغوط قوية، ومنها دخول سلاح النفط على الخط، إذ إنّ هناك مَن يتحدّث عن إنذار ستوجّهه شركات النفط في شأن ضرورة المباشرة قريباً بوضع هذا الملف حَيِّز التنفيذ من خلال واقع شرعي مكتمل على مستوى الدولة اللبنانية، وإلّا فإنّها ستضطرّ للانسحاب من السوق اللبناني.
ومن هنا لا بدّ من مراقبة الخطوات الإسرائيلية في هذا المجال، فيما أسعار النفط التي تتراجع، وستستمرّ كذلك لفترة لا بأس بها، تجعل من كِلفة استخراج النفط في بعض الأماكن أعلى من ثمن بيعِه، ما يعني صرفَ النظر عنه حاليّاً.