قد يتفاجأ كثيرون عندما يدركون كم صرف الموفد الفاتيكاني الكاردينال دومينيك مومبرتي من وقته خلال زيارته الأخيرة للبنان، محاولاً فهم المواقف من مستقبل لبنان في صيغته وميثاقه.
قلة هم الذين اطلعوا على مثل هذا الجانب، وكثر تابعوا دون شك جدلية موضوع الرئاسة الشاغرة وآفاقها من خلال مباحثاته.
الواقع، لم يكن من السهل على مومبرتي الحصول على إجابات واضحة وشفافة بالطبع، فالأحداث والتحولات ترسم خرائط جديدة من حول الوطن الصغير، لا معالم واضحة لها أو حدوداً نهائية. الأنظمة تتهاوى والحلول مغيبة والبدائل أحلاها مرّ لتاريخه.
اليقين بالنسبة إلى الحاضرة البابوية، ان جميع الأفرقاء اللبنانيين يعيشون حالة انتظار ممل في محاولة تقص غامضة لما سينتهي إليه المشهد في الشرق الأوسط، وكل الدلائل تشير إلى أنه قد انقلب رأساً على عقب، وان هناك استحالة لعودة المنطقة إلى ما كانت عليه يوماً .
في الوقت عينه، يصرّ الفاتيكان ومعه الكنيسة المحلية على محورية الشراكة المسيحية – الإسلامية كأساس للتوفيق بين أشكال التنوّع في لبنان. رئيس الجمهورية أكثر من ضرورة في هذا الإطار، ورئيس الجمهورية القادر على إطلاق عمل المؤسسات الدستورية دونما تعطيل وايضاً المؤتمن على التوازنات الجوهرية الوجودية الإسلامية – المسيحية والإسلامية – الإسلامية!
ضمن هذا السياق، يتشارك الكرسي الرسولي مع الكنيسة المحلية في تقويم الخدمات الجمّة التي قدمها إتفاق الطائف للمكونات الوطنية كافة، لا سيما تلك المتعلقة بالمناصفة. صحيح خسر المسيحيون بعضاً من الصلاحيات الدستورية في اتفاق الطائف، لكن على اللبنانيين مجتمعين التمعّن في حتمية ما كان سيكون عليه الواقع اليوم لو لم تُبقِ التسوية في حينها على المناصفة مثلاً، فهل كان ليصمد الإستقرار النسبي الذي ينعم به لبنان؟
لم يطرح الفاتيكان حلولاً، بل استمع وناقش وقدم نصائح. عندما تحدث البطريرك الماروني عن أهمية إرساء عقد وطني مجدد، كان يدرك تماماً ان الطائف كانت له ظروفه ومفاعيله. وبالقدر الذي تتمسك به بكركي بفكرة لبنان وجوهرها، وبالمناصفة والعيش معاً، ينظر هذا الصرح الوطني إلى واقع يفرض العمل على تطوير النموذج اللبناني القائم على ثَوابت ثَلاثة: الحرية والمساواة في المشاركة وحِفظِ التعدُّدية والتنوُّع، بما يدعم استكمال الإصلاحات البنيوية التي أقر بعضها دستور الطائف، وأهمها اللامركزية.
يتشارك الفاتيكان والكنيسة المحلية والعديد من الفاعلين المدنيين فيها، في ان على الدُّستورِ أن يتكيَّف مع الخبرات المعيشية والمكتسبة بما يتطلبه من تطويرٍ وتحصينٍ مِن ضمن الميثاق. فهذا طبيعي، ويأتي في إطارِ نمو المجتمعِ جراء تجارب موجِعة. فصحيح أنّ اتفاق الطائف وضع حدّاً لدورة عنف طويلة عصفت بلبنان، واستطاع استيعاب صِراعات الشارع إلى حد كبير. لكنّه لم ينجَح في الحدِّ من تجاذُباتها داخل المؤسَّسات والإدارات العامّة، فساد الشلل وتعطلت المؤسسات الدستورية. وأضْحت المساواة في المشاركة على حسابِ الإنتاجيّة. وبقيت الهواجس، لا بل تشعَّبت وزادَت.
انتقدت بكركي يومها، على اعتبار ان الوقت ليس مناسباً لطرح مثل هذه القضايا الأساسية في ظل غياب مقومات الدولة وهيمنة السلاح خارج سلطتها، والأخطر التلويح بكلام عن مؤتمر تأسيسي ومثالثة … لكن النظرة الواقعية إلى مجرى الأمور لم تمنع الفاتيكان من السؤال عن كيفية التطوير في اتفاق الطائف وليس تعديله أو الغاءه، وأيضا كيف يقرأ الآخرون هذا الأمر.
في هذا الإطار قدم نائب رئيس المؤسسة المارونية للإنتشار نعمة افرام العديد من المقاربات المكتوبة في كيفية الحد من الصراعات في المجتمعات المتعددة من دون المسّ بوحدتها المعنوية والمادية. في إقرار قانون اللامركزية الإدارية الموسَّعة يقول «انها فرصة جدّية لتمتين الوحدة الوطنية وتأمين الإستقرار عبر تخفيف حدّة الصراع على السلطة المركزية. وهذا مسار يكفل استقطاب وتثمير القدرات الحية والابداعية للمجتمع المدني في الشأن العام وفي مجال إيجاد القيمة المضافة وتطوير حياة الإنسان. وهو يتيح إعتماد خطّةٍ تعزّز عمل الوحدات الإدارية الصغرى تمثيلاً وانتخاباً وصلاحيات، وتفعّل آليات إتخاذ القرار وقراءة مفاعيله بسرعة قصوى، بشكل يسمح بالتصحيح وبخلق نهج من التطوير المستدام خدمة للمواطن وترجمة لطموحاته«.
وفي مشروعه «لبنان الأفضل» الذي كثيراً ما تستقي منه الكنيسة توجهاتها ونداءاتها الاقتصادية – الاجتماعية يلفت الى ان «اللبنانيين قدّموا النموذج الحيّ في كيفية صوغ استحقاق العيش معاً، وكانوا سبّاقين. لكنهم أخفقوا في ترجمة تجربتهم هذه في مشروع ينقل عيشهم معاً من عيش مشترك عقيم إلى عيش مشترك منتج وأفضل«.
اللامركزية التي تطمح اليها كنيسة لبنان تقول لا للأصوليات كما للإلحاد كنظام، وتقول نعم للحياة المشتركة الصافية والمنتجة. دولة تحقق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن، وتبسط سلطة القانون، وتحمي حق الإختلاف والتنوع، وقبولهما. والكنيسة في لبنان تتوق إلى مثل هذا النموذج، في دولة لا تأسرها المحاور الدولية والإقليمية، بل مصلحة شعبها أولاً، والقضايا العربية المشتركة. دولة تعتمد الحوكمة الرشيدة، وهي تعني الإنسان في الأساس. دولة تبني قراراتها على الإنتاجية والقيمة المضافة، وليس على الكيدية السياسية أو المذهبية أو المناطقية.
غادر مومبرتي، ليطفو على السطح جدل مريب ومموّه حول اللامركزية والفيدرالية ومفاهيم دستورية أخرى. عجباً، كيف تربط حسابات الرِّبحِ والخَسارةِ في السياسةِ اليوميّة، بالعيشِ المُشترَك!