لبنان الغد هو لبنان الذي لن يكون إلا على قدر طموح أولئك الأبطال الذين استُشهِدوا من أجل أن نبقى نحن، وأن ننساهم تلك الخطيئة المميتة. أن ننسى هؤلاء يعني نسياننا لأعظم بطولة حصلت في تاريخ لبنان، والذي ينسى بطولة كهذه البطولة، يستحقّ هو ذاته النسيان. لبنان الحقيقي ذاهب غداً إلى الفاتيكان. لبنان الأب القوي ذاهب ليقول كلمة لبنان الكيان ويمشي. هذا البطريرك الذي سيكون حتماً بحجم التاريخ كأسلافه لأنّه لم ينس هؤلاء الشهداء، بل الأكثر من ذلك إنّه يحملهم في قلبه وروحه وكيانه أينما ذهب. غداً في الفاتيكان ما الذي سيقوله البطريرك الراعي؟ ولماذا الكلّ يترقّب هذا المؤتمر بحذر شديد؟ وما هي المقاربة الفاتيكانيّة للبنان الجديد؟
يجب الانتباه أوّلاً إلى أنّ البطريرك الراعي لا يتكلّم عن القضيّة اللبنانيّة في عظاته نهار الأحد فقط، بل إنّ لقاءاته كلّها تدور حول القضيّة اللبنانيّة، في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيّين وزوّاره كلّهم، إضافة إلى أيّ لقاء خارج لبنان تكون القضيّة اللبنانيّة همّه الوحيد. وما يلفت في هذا السياق أنّ الدّول العظمى لا تتعامل مع أيّ كيان ضعيف. فالكيان السياسي الذي كوّنه المسيحيّون المتعاملون مع المحتلّ السوري بعد الطّائف، والذين رضخوا لإرادة الوصيّ الايراني، أي “حزب الله”، لا سيّما “التّيار الحرّ” الذي وقّع أوراق ذميّته في 6 شباط 2006، هؤلاء كلّهم في موقع الضعيف. لذلك كلّه، الدّول العظمى لن تتعامل مع أيّ طرف من هؤلاء. والأكثر من ذلك معظمهم بات تحت العقوبات الدّوليّة.
مقابل ذلك كلّه، تبحث هذه الدّول العظمى عن الكيان القوي لتتعامل معه وليكون هو المتحدّث باسم لبنان الذي تريده الأمم جميعها. وتمثّل الكنيسة اللبنانيّة، متجسّدة بالبطريركيّة المارونيّة التي استحالت بطريركيّة لبنانيّة جامعة ومقدّسة ورسوليّة هذا الكيان. من هنا، بات الصوت القوي في لبنان هو صوت بطريرك لبنان، وصوت بكركي. لذلك، الكلام اليوم مع الكيان القوي فقط. وليس مع أيّ ذمّيٍّ أو مرتَهَنٍ لقاء ثلاثين من فضّة. والأمم تسمع للصوت القوي، لصوت بكركي.
أمّا أهميّة مؤتمر الفاتيكان فهي تكمن بكيفيّة الدّعوة لهذا المؤتمر، إذ قداسة البابا فرنسيس هو نفسه الذي دعا لهذا المؤتمر. ما يعني أنّ لبنان هو محطّ اهتمام الفاتيكان. والملفّ الأوّل المطروح هو ببعدين كيانيّين:
– الأوّل: حياد لبنان الذي بات واقعاً يُناقَشُ بين الأمم.
– الثاني: لا تسوية على حساب لبنان، ولن يكون جائزة ترضية لأحد.
ولهذه الغاية ستطلق عمليّة تحرير الدّولة اللبنانيّة من المسيطِرَات وأوّلها السلاح غير الشرعي. أمّا الملفّات الأخرى فأعدّت بكركي لجاناً مختصّة لتكوين ملفّات في مختلف الميادين بعد الغياب المتعمّد لدور الدّولة في مختلف ميادين الحياة من الدواء إلى الغذاء، لأسباب باتت معلومة لدى الأمم المهتمّة بالقضيّة اللبنانيّة. لكن لا ينتظرنّ أحد الحلول السحريّة وبالسرعة الجارفة كالسيل. إذ من الطبيعي أن يكون التجاوب بطيئاً. لكن الأهمّ في ذلك كلّه هو أنّ بكركي قد أثبتت أنّها الصوت المسيحي القوي والصوت اللبناني القوي في لبنان كلّه، ولا صوت يعلو فوق صوتها إطلاقاً. والباقي كلّه تفاصيل لا تتوقّف عندها.
فذهاب بكركي ورؤساء الكنائس الأخرى إلى الفاتيكان يعني ذهاب لبنان كلّه. وستتمّ مواكبة المؤتمر بصلاة مباشرة من مزار سيدة لبنان في حريصا. ومن المهمّ في هذه الأثناء عدم الانجرار وراء أيّ دعوات مشبوهة قد تكون مفتعلة من الجهات المتضرّرة ممّا سيحدث في الفاتيكان، وهي معروفة من صغار القوم قبل كبارهم. فهذه الجهات ما زالت تعمل بقواعد الدّفتر المخابراتي المأجور نفسه الذي كانت تعمل به في أيّام زيارة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في أيّار من العام 1997.
أيّ تسوية على حساب الكيانيّة اللبنانيّة مرفوضة فاتيكانيّاً ودوليّاً، وهذا الكلام لن يكون كلام الفاتيكان وحسب بل هو كلام أكثر من ملياري كاثوليكي في العالم ضنينين ببقاء لبنان الوطن التعدّدي والمحايد ووجه حضارة الحوار والسلام في العيش معاً. فالشعب اللبناني اليوم مدعوّ بأكمله لأن يكون مهيّئاً أنطولوجيّاً ليحمل هذه الهويّة الكيانيّة الحضاريّة ليمثّل هذه الحريّة الشخصيّة الكيانيّة في هذا الشرق الجريح؛ ليبقى ناسوتيّاً منارة في العلم والعمل والعيش معاً شاء من شاء وأبى من أبى. ولاهوتيّاً هذه هي الولادة الثالثة للبنان الجديد. ومن له أذنان للسماع فليسمع.