مع انسداد أفق التوافق في مجلس الوزراء، وبقاء لبنان من دون رئيس منذ أكثر من سنة وخمسة أشهر، لجأ رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي الى تحريك البرلمان عن طريق الدعوة الى عقد لجنة تشريعية، ولا يزال التداول بأهمية انعقادها في هذه المرحلة بالذات جارياً بين جميع الأطراف. غير أنّ الفاتيكان لا يزال يتمسّك بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت ممكن، والأسباب كثيرة تفنّدها أوساط كنسية متابعة بالآتي:
1- يخشى الفاتيكان من أن يؤدّي تمرير الوقت في ظلّ الشغور الرئاسي الحاصل، الى فقدان المسيحيين، ليس فقط في لبنان بل في منطقة الشرق الأوسط ككلّ، لهذا المنصب الذي يحتلّه مسيحي منذ عهد الاستقلال، وينفرد فيه لبنان دون سواه من دول المنطقة، ما يجعله منصباً كبير الأهمية بالنسبة لمسيحيي المنطقة.
2- يرفض الفاتيكان فرض اسم رئيس معيّن من قبل بعض الدول الضاغطة والمتدخّلة في الشأن الرئاسي لأنّ هذه الأخيرة تودّ تحقيق مصالحها في المنطقة مقابل إيصاله الى السلطة، وقد لا يخدم هذا الأمر مصالح المسيحيين في المنطقة. ولهذا يدعو الأطراف المعنية الى اتخاذ موقف جريء وشجاع والمضي في انتخاب الشخصية التي يجدونها أكثر تمثيلاً للمسيحيين، لأنّه عاجلاً أم آجلاً لا بدّ وأن يتفقوا على إسم هذا الشخص، وإنّ إضاعة الوقت ليس لصالح المسيحيين الذين يعانون حالياً من الإرهاب والاضطهاد والقتل والعنف والتهجير.
3- يودّ الفاتيكان رؤية لبنان معافى ومحيّداً عن كلّ الصراعات الجارية في المنطقة. ولن يتمّ ذلك، على ما أكّدت الأوساط نفسها، ما دام بلا رأس، أي بلا رئيس، لأنّ وجوده في موقعه من شأنه إعادة الأمن والاستقرار للبلاد، كما هيبتها في المؤتمرات الدولية، فضلاً عن استعادة المؤسسات الدستورية لدورها الفاعل والطبيعي.
وترى أنّ الحوار لا بدّ وأن يؤدّي الى تقريب وجهات النظر، وبالتالي الى التوافق على إسم الرئيس العتيد. ولا يمكن أن تكون طائفة كبيرة بحجم المسيحية في لبنان لا تضمّ شخصيات كفوءة لتولّي هذا المنصب. أمّا القول بأنّ المسيحيين أنفسهم غير متفقين فيما بينهم على إسم الرئيس، ولهذا يتعطّل الانتخاب، فهو لا يتعدّى كونه ذريعة لدى الطوائف الأخرى للاستئثار بالسلطة التي هي أساساً من حقّ المسيحيين. ولهذا يقوم البابا فرنسيس خلال لقاءاته الرسمية مع قادة دوليين فاعلين ومؤثّرين في الداخل اللبناني ببحث موضوع الرئاسة معهم، مشدّداً على أنّه لن يسمح بفقدان المسيحيين لهذا الدور في لبنان، انطلاقاً من كونه البلد النموذج للعيش المشترك وللتعددية الطائفية، ليس فقط في المنطقة بل في العالم. ومن هنا يجب الحفاظ على هذا التميّز الذي يتمتّع به هذا البلد، حفاظاً على المسيحيين ودورهم في المنطقة.
وفي الداخل، يُشدّد الفاتيكان على ما أوضحت الأوساط عينها، على تأدية بكركي دور المنبّه والمنادي دائماً بضرورة انتخاب الرئيس المسيحي قبل أي شيء آخر، لأنّه لا يجب تخطّي هذه المسألة المهمّة والانتقال الى عناوين أخرى تبدو في نظر الفاتيكان أقلّ أهمية. غير أنّ عدم اكتراث النوّاب لما يُطالب به البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في هذا الشأن، يُقلّل من أهمية دور بكركي الوطني، ولهذا يبحث الفاتيكان في كيفية تفعيله لكي يكون ناجحاً أكثر ويوصل المسيحيين خصوصاً، واللبنانيين عموماً الى شاطىء الأمان من خلال انتخاب الرئيس.
ويُفكّر الفاتيكان، في أنّ يدعو البطريرك الراعي مجدّداً الى حوار للقادة المسيحيين بغية توافقهم على قرار نهائي بشأن الانتخاب الرئاسي، في حال بقيت كلّ الأبواب مسدودة، ولا سيما منها اليوم طاولة الحوار التي يعوّل عليها لحلّ مسألة الإستحقاق الرئاسي. فلا بدّ من أن تعود بكركي الى المبادرة هذه المرّة في حال الفشل مجدّداً، على أن يكون الفاتيكان قد هيّأ لها الظروف الملائمة للتقريب في وجهات نظر القادة المسيحيين، رغم علمه أنّ الأمر لن يكون سهلاً.
في المقابل، تقول الأوساط أنّه في حال تمّ التوافق على وضع قانون جديد للانتخابات النيابية، وجرت هذه الأخيرة في وقت قصير، فإنّ ذلك سوف يُسرّع عملية انتخاب الرئيس من البرلمان الجديد، ولا بأس في حصول هذا الأمر ما دام يوصل في النهاية الى تحقيق الغاية المنشودة منه. وفي رأيها، أنّ من انتظر نحو سنة ونصف السنة يستطيع الانتظار أشهر قليلة بعد، شرط إرضاء المسيحيين والتوافق على الرئيس المناسب للمرحلة المقبلة.
وفي رأيها، إنّ المرحلة المقبلة ستكون صعبة على المسيحيين الذين تهجّر عدد كبير منهم من كلّ من العراق ومصر وسوريا، وهاجر بعضهم من لبنان بفعل الظروف الإقتصادية السيئة التي تعيشها البلاد، ولهذا يجب أن يكون للبنان رئيس مسيحي يحمي مسيحيي المنطقة من كلّ ما قد يعترضهم مستقبلاً، ولا سيما من المخططات الغربية التي ترمي الى إزاحتهم منها.