أما «الفنكوش» فكلمة مصرية لا معنى محدداً لها لكنها ذائعة الصيت، وتستخدم للإشارة إلى كل وعد لا يتحقق، أو مشروع يظهر لاحقاً أنه مجرد وهم، أو فكرة يتبين أن لا أمل في تحقيقها. ظهرت الكلمة للمرة الأولى قبل سنوات في شريط سينمائي عندما وجد بطل الفيلم نفسه في مأزق، فاخترع كلمة «الفنكوش» مدعياً أنه منتج غذائي، ووعد الناس بأنهم سيجدونه في الأسواق لاحقاً، وبفضل الدعاية والضجة الإعلامية وجد الناس أنفسهم يستخدمون نوعاً من الحلوى لا طعم له، لكنه مجرد سلعة حققت رواجاً بفضل الصخب الذي أُثير حولها.
عاد المصطلح مجدداً، وصار يُستخدم ضمن مفردات السياسة لدى «الإخوان» وناشطي الثورات مع هبوب رياح «الربيع العربي» لحرق كل فكرة جادة أو مشروع واعد أو فائدة ستتحقق حتى يبقى الناس رهن الغليان المستمر والإحباط الدائم.
نعم. الحياة في مصر ليست وردية، والبلد ما زال ينفض عن نفسه أعباء ركود استمر لعقود وشظايا أصابت بنيته التحتية بفعل الربيع العربي وآثاراً سلبية نتيجة لحكم «الإخوان» وثمن خلعهم. ولا أحد ينكر أن البلد يعاني وضعاً اقتصادياً صعباً، بل إن الرئيس عبدالفتاح السيسي لا يتوقف عن تأكيد ضرورة حل الأزمة الاقتصادية، ولو بإجراءات صعبة. ولا يمكن لأحد أن يجادل في أن أسعار السلع الأساسية تتصاعد، وأن الغلاء يكوي البسطاء، وأن الدولة تعاني نقصاً حاداً في الموارد، وندرة بالغة في العملات الصعبة، ما زاد من وطأة الحياة على المواطنين.
تلك حقائق لا يمكن الجدل في شأنها أو إخفاؤها. وطبيعي أن يكون هناك خلاف على أسبابها وطرق علاجها. لكن عند البحث عن الأسباب وسبل الخروج من الأزمة، دعك من «الإخوان»، فكتائب اللجان الإلكترونية «الإخوانية» تعمل طوال السنوات الثلاث الماضية على تلبية أوامر قادة الجماعة في إشاعة الإحباط بين الناس، ونشر ما يبدد فرحتهم بأي مشروع، وإفساد سعادتهم بأي إنجاز، وتحويل نهارهم إلى ليل وأفراحهم إلى مآتم. ولأن قواعد «الإخوان» لا صلة لها بالصراعات التي تدور بين قادة التنظيم، إذ يركز الأعضاء فقط على السمع والطاعة للقادة، فإن الأفراد يعتقدون بأن تنفيذهم الأوامر سيجعل الناس يحنون إلى أيام حكم الجماعة ويصدقون أن الفشل الذريع الذي حققته، وبمنتهى الكفاءة، كان بسبب السيسي والجيش والمؤامرة الدولية على الإسلام، وليس ندرة الكفاءة بين رموز الجماعة، أو تركيز التنظيم على «أخونة» الدولة من دون تحقيق مصالح الشعب. كما أن الآلة الإعلامية الضخمة للجماعة بكتائبها الإلكترونية وقنواتها التي تبث من خارج مصر لم تكتف أصلاً بتغييب الحقائق، أو إفساد الفرحة، وإنما نشطت في شدة لاختراع الأكاذيب وافتعال الأزمات والصيد في كل ماء عكر، لعل زيت الزيف يزيد من نار الغضب فيفقد السيسي شعبيته ويخرج الناس بثورة عليه.
المهم أيضاً أن تجربة «الإخوان» في حكم مصر أثبتت أن لا نظرية اقتصادية أو أفكار خلاقة لديهم للخروج من الأزمات وتحقيق الازدهار إلا مشروع «طائر النهضة» ذلك «الفنكوش» الكبير الذي طرحه الرئيس «الإخواني» محمد مرسي، وضحك الناس على مفرداته من رأس وجناحين ومؤخرة!
أما ناشطو الفضائيات و «ثورجية» مواقع التواصل الاجتماعي ممن وضعوا أنفسهم في سلة واحدة مع «الإخوان» بالسعي الدؤوب إلكترونياً والجهاد الدائم فضائياً، فاختلفوا في تفسير أسباب الأزمة الاقتصادية وسبل علاجها وفق التوجهات السياسية لكل منهم، وإن اتفقوا جميعاً مع «الإخوان» على أن كل مشاريع السيسي مجرد «فنكوش»، وروجوا للمصطلح وأعادوا إحياءه كلما فاجأهم الرجل وخرج عليهم بمشروع كبير، كما حدث بالنسبة إلى «قناة السويس الجديدة»، أو إنجاز مشروع الطرق، أو بتشييد المدن الجديدة، أو استصلاح الأراضي، أو محطات الكهرباء، أو آبار البترول والغاز. وأنهك الإخوان و «الثورجية» أنفسهم في البحث عن «نظريات» سياسية واقتصادية لتخويف الناس وإحباطهم وتحذيرهم من أن كل مشروع هو مجرد «فنكوش» لن يسمن أو يغني من جوع.
يتبقى للسيسي أقل من سنتين على ولايته الأولى التي تسلم فيها حكم مصر باقتصاد منهك، وبنية تحتية متهالكة، وفساد تحول إلى «ثقافة»، واستقطاب سياسي قفز بنخبة انتهازية إلى واجهة الصورة، وإرهاب زاد من أوجاع الاقتصاد، وحرب ضروس يشنها «الإخوان»، ومراهقة سياسية لناشطين بعضهم يُصَفّي معه حسابات بعدما وجد نفسه خارج نفوذ السلطة. قد يترشح السيسي لفترة أخرى أو لا، لكن معظم المصريين الذين ما زالوا يؤيدونه يثقون بأن الرجل يعيد بناء مصر من جديد وبأن وعود «الإخوان» والناشطين و «الثورجية» بأن حكمه سيفشل وأن مشاريعه ستنهار وأن شمسه ستغيب لن تفضي إلا إلى «فنكوش» كبير سيفاجئ كل المنتظرين سقوطه.