في الوقت الذي تتفجر فيه المنطقة منتجة هذه التشكيلة الرهيبة من الأحداث الملتهبة والتي أسفرت حتى الآن، عن أربع حروب طاحنة في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، وتسببت بما هو معروف ومكشوف من مئات الألوف من القتلى وملايين النازحين والمهجرين، ومنهم ما يناهز المليوني مهجر سوري باتوا متمركزين على الأرض اللبنانية، وفي الوقت الذي يتدافع فيه عشرات الألوف من اللبنانيين إلى الهجرة من لبنان بعد أن أصبحت أوضاعهم المعيشية شديدة الإنحدار والقساوة، وبعد أن أصبح إقتصاده الوطني على حافة أكثر من هاوية وأخطر من تهديد، وبعد أن باتت مياه البحار تبتلع أبناءنا وأطفالنا قبل الوصول بهم إلى أي شاطىء يعينهم على الحفاظ على رمق العيش وأدنى شروط الحياة الكريمة، في هذا الوقت العصيب نشهد ذلك التفجر المؤسف في قوى الرابع عشر من آذار التي شكّلت للبنانيين طوال فترة سابقة بدأت بُعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وصولاً إلى تداعيات وسقطات متتالية قلّلت مع الأسف من وهجها وأثرها وأمل اللبنانيون في أن تكون الصورة المثلى للوضع اللبناني المستقبلي، بعد أن اتخذت لها بمكوناتها جميعا وفي طليعتها المكون السنّي، شعارات جديدة ونهجاً جديداً، إستمدّتها من تجارب السنوات السوداء التي سبق للبنان أن مرّ بها منذ العام 1975 وكادت أن تذهب به وبمكوناته السكانية التي شكّلت منذ الإستقلال، كيانه المستقل وميثاقه الوطني القائم على العيش المشترك.
ها نحن اليوم نشهد الإنشقاقات والإختراقات التي بدأت منذ مدة تنهش في هذا الجسم الوطني، ذلك المولود الجديد في تاريخ الحياة العامة اللبنانية والذي عرف بتسمية 14 آذار. لن أنهج إلى لغة التلطيف والتخفيف: ما حصل، وما هو مستمر في الحصول، يشكل فعلاً إنشقاقاً عمودياً هاماً لن تنجح العبارات الدبلوماسية وكلمات التلاطف المعسولة في رأب أصداعه، الأمر الذي فتح المجال مع الأسف أمام كل هذه المواقف الحافلة بالتحدّي، والتي بالغت في هزّ الأوضاع اللبنانية، وصولاً إلى إلغاء كامل لسلطاتها التشريعية والتنفيذية والإدارية، وأخيراً وصولاً إلى المؤسستين العسكرية والقضائية، بعد أن نجحت المؤسسة العسكرية في حماية نفسها وكيانها الذي ما زال يحافظ على أكبر قدر ممكن من السلامة، ولكنها ومن خلال المحكمة العسكرية، ووزنها للأمور الواحدة بموازين مختلفة حافلة بالتجني والثغرات وقد تم اختراقها مع الأسف بما يخدم سياسة الإنخراط في معارك ومشاكل وإملاءات الخارج، وتفضيلها على مصالح لبنان المنكوب، أرضاً وشعباً ومؤسسات، وها نحن نصل إلى قمة الخروج على الخطوط الوطنية السليمة من خلال الإستعجال الغريب العجيب في اتخاذ القرار بتخلية ميشال سماحة بما يشبه التبرئة الكاملة وبما يمهد الطريق لإصداره في وقت قريب، في وقت ما زال فيه مئات من المتهمين اللبنانيين موقوفين على ذمة التحقيق منذ سنوات عديدة دون أن يكون هناك أي تحريك لقضيتهم باتجاه إصدار أحكام عادلة.
ما حصل وما هو مستمر، لا يبرر مهما كانت الظروف والأخطاء والدوافع، تحويل 14 آذار المنجم، الأساسي للقوى الوطنية المتمثل بقوى الرابع عشر من آذار بعد تخليصه من كثير من أدران الطائفية البغيضة، إلى أجواء مختلفة تماماً تعيد لبنان إلى الإنحصار في المطالبة بحقوق المسيحيين، بعد أن كانت المطالب جميعاً منصبة على ما يدفع ويعين ويرجع البلاد إلى مسيرة العيش الطبيعي المجرّد «قدر الإمكان» عن المبالغة في العصبيات الطائفية، ومع الأسف، ها نحن وبقرار منتظر من الدكتور سمير جعجع أصدره بالتضامن والتكافل مع الجنرال عون مساء الإثنين المنصرم في احتفال حاشد ضم تآلفاً للقوى اللبنانية المسيحية في طبعتها الجديدة المتمثلة بصورتين معبّرتين على غلافها، لكل من زعيمي القوات والتيار الوطني الحر، فإذا بنا نعود إلى جحر عميق وتوجه طائفي بغيض، نأسف كل الأسف لحصوله ووصوله إلى هذا الحد المؤسف والمفجع.
يأخذ المواطن اللبناني، بعين الإعتبار جملة من الوقائع التي أدت بنا إلى هذا الدرك المرفوض، وهو درك محزن نابع أساساً من موقف الدكتور جعجع بتوافقه « في موقف مسيحي صرف» مع العماد عون وآخرين، على اقتراح قانون الإنتخابات الأورثوذوكسي، وتكلّف الأمر معارضة قوية من بقية المكونات اللبنانية أدت إلى حذفه من احتمالات الإعتماد، تضاف إلى ذلك جملة أخرى من المواقف السابقة المتعلقة برغبة حزب القوات في اقتطاع مقاعد نيابية مسيحية من مقاعد تيار المستقبل لمصلحة القوات بدلاً من أن تكون لمصلحة التكوين الوطني الجامع الذي يمثله هذا التيار الرافض أصلاً وفصلاً لتصنيفه مكوناً سياسياً يقتصر على المسلمين، علماً بأن لحزب القوات فرصة كبيرة في الحصول على عدد أكبر من النواب من خلال خوض غمار انتخابات جدية وشاملة سواء في كسروان والمتن أم في أماكن أخرى في الشمال اللبناني وفي سواه.
في المقابل، أخذ المواطن اللبناني على حزب المستقبل، تفرّده في السعي لأن يكون الوزير سليمان فرنجية رئيساً مقبلاً للجمهورية، ولم يقتنع القواتيون بالأسباب الموجبة الدافعة إلى هذا المنحى الإنقلابي، واعتبره غلاتهم بأنه يشكل طعنة لمكون أساسي في تركيبة الرابع عشر من آذار، كان منطلقهم إلى الترويج منطلقاً من إفتراضية اعتبروا فيها أنه لو خُيّر القواتيون بين فرنجية وعون لفضّلوا عون لشمولية وزنه وتمثيله المسيحي، وها هي القوات تشكل خطّاً واحداً مع الرئيس عون، هو خط واحد متكامل يدعو أولاً إلى وحدة المسيحيين ويضع الوضع الوطني المتعارف عليه أساساً ضمن إطار الرابع عشر من آذار في المرتبة الثانية أو الثالثة.
وإن هذا التصرف القواتي الذي أخذ بعضاً من الوقت للإنضاج، قد سعى إلى تحقيق المصلحة القواتية والتشبث بحقها في الإستحصال على أكبر قدر ممكن من التمثيل المسيحي، على مجمل الأراضي اللبنانية إضافة إلى ردة فعل حادة قابلت بها مبادرة الرئيس الحريري دون أن نشكك في حق القوات في اختيار النهج الذي تراه، ودون أن ننكر أن اللبنانيين المتآلفين مع خط 14 آذار، قد اعتادوا على اعتبار الدكتور جعجع في المكان الوطني المتقدم الذي وضع نفسه فيه في السنوات الأخيرة، مشيرين إلى أن تقلّب الإنتماءات والإتجاهات هو أمر عرف عن الجنرال عون وهذا ما دفعه إلى أن يكون متآلفاً ومنصهراً في آخر المطاف مع مواقع ومواقف حزب الله وتوجهاته الداخلية والخارجية (السورية والإيرانية)، ومع كل ما ذكرناه أعلاه فإن اللبنانيين عموماً، بمن فيهم المكونات السنية في هذا الوطن، يأخذهم الإستغراب والعجب من تصرف «الحكيم» الأخير وهم ما زالوا يأملون بأن تعود الأمور إلى نصابها الذي كانت عليه، وأن تسترجع 14 آذار، المكون القواتي، وأن تتآلف العناصر الوطنية الحقيقية في درء الأخطار الهائلة التي تحدق بلبنان في هذه الأيام، أما عن ترشيح الجنرال عون للرئاسة من قبل القوات، فقد أدى خلط الأوراق اللبنانية كافة سواء ضمن 14 آذار أو ضمن 8 آذار، والجميع ارتدوا بمواقعهم إلى خلف الطاولات وصوامع الدرس وصياغة المواقف واستعراض الإحتمالات، آخذين بعين الإعتبار أن الجميع باتوا في بحث تنقيبي عن مصالح كل منهم بعد أن تمّ تقزيم هذه المصالح من قبل البعض بوضعها في الإطار الطائفي البغيض بعد أن كانت 14 آذار قد أشبعتنا آمالاً نقلتنا بها إلى الضفاف الوطنية ومجالات التطلعات إلى عالم مدني أفضل. بترشيح عون، أعيد خلط كل الأوراق وكل التوقعات وكل الإحتمالات، ويا أيها المواطن اللبناني المتعثر في حظوظه الإنقاذية: إلى الوراء دُر، ويا أيها المواطن اللبناني المسيحي، إلى التقوقع الطائفي سرْ.