عندما يحرص الأتراك على التأكيد على أن المناطق الحدودية بين بلدهم تركيا وبين سوريا بعمق خمسين كيلومترا وطول تسعين كيلومترا داخل الأراضي السورية، التي اتفقوا عليها قبل أيام مع الولايات المتحدة، ستكون «نظيفة» من تنظيم داعش الإرهابي، ولم يأتوا على ذكر المعارضة السورية المعتدلة إلا في الاتجاه ذاته والقول بأنه سيكون هناك غطاء جوي لهذه المعارضة العاملة ضد هذا التنظيم، فإن هذا يعني أن هناك حلاً سياسيًا يجري الإعداد له يتطلب إنجاحه عدم «استفزاز» روسيا وإيران بأي شكل من الأشكال وبأي طريقة من الطرق.
ولعل ما يعزز هذا التقدير أن الأميركيين عندما أعلنوا استعدادهم لتدريب أعداد من المعارضة السورية «المعتدلة» قد حرصوا على أنهم سيدربون هذه المعارضة لمواجهة «داعش» وليس لإسقاط بشار الأسد ولا نظامه، وذلك رغم أن صحيفة «الغارديان» البريطانية كانت قد قالت في أحد أعدادها السابقة إن الولايات المتحدة تتهم النظام السوري بتقديم الدعم لهذا التنظيم الإرهابي لتُمكنه من إحراز تقدم على حساب المعارضين السوريين في حلب. ولقد قال موقع «تويتر» التابع للسفارة الأميركية في دمشق بدوره في إحدى تغريداته إن القيادة السورية تشن غارات جوية لتقديم الدعم لهؤلاء الإرهابيين في ثاني أكبر مدن سوريا، أي حلب.
ويبدو أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومعه كل أركان حكومته، وعلى رأسهم أحمد داود أوغلو، يعرفون أن الأميركيين بتسليط الأضواء على تنظيم داعش وحده وعدم الإتيان على ذكر المعارضة السورية، وهم يتحدثون عن المناطق العازلة على الحدود السورية – التركية، يتجنبون استفزاز الإيرانيين والروس، مما يدل على أن هناك «طبخة» حل لأزمة سوريا أشار إليها وزير الخارجية الأميركي جون كيري عندما أدلى بتصريح خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو قال فيه إنه يتم البحث مع الجانب الروسي عن إيجاد مكان لإيران في عملية البحث عن نهاية لأزمة سوريا المستفحلة بالوسائل السلمية.
والغريب، على هذا الصعيد، أن السفير الإيراني لدى الأردن محبتي فورسي، الذي من غير المعروف ما إذا كان مخولاً من أصحاب القرار الفعلي في طهران للغوص في هذه القضايا التي تتعلق بالسياسات العليا الإيرانية أم لا، قد أدلى بتصريحات تحدث فيها عن أن الحل الوحيد في سوريا هو المفاوضات بين المعارضة والحكومة السورية.. «يجب أن نمهد الأرضية لجلوس الفرقاء على طاولة الحوار للوصول إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية».
وفي الاتجاه ذاته، فإن المعروف أن المبعوث الروسي إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف كان قد عرض على الائتلاف السوري، المعترف به دوليا، تقاسم السلطة مع بشار الأسد، لكن هذا الائتلاف رأى أن هذا العرض هو مجرد مناورة روسية جديدة للتهرب من استحقاق تنحي الرئيس السوري الذي وإن هو لم تنص عليه «جنيف 1» بوضوح وصراحة فإنه متضمنٌ في النتيجة في إطار «المرحلة الانتقالية» التي نص عليها هذا الاتفاق الآنف الذكر الذي تم التوصل إليه بموافقة الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، والذي ما لبث الروس أن تملَّصوا منه في «جنيف 2».
وهنا ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة التي غدت أم المسائل بعد التوصل إلى اتفاق النووي قبل أيام قليلة بين إيران ودول «5+1» وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس باراك أوباما كان قد أبلغ دول مجلس التعاون الخليجي في قمة كامب ديفيد بأنه لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سوريا، وأنه – أي الرئيس الأميركي – قد أكد على ما تضمنه هذا التصريح خلال زيارته الأخيرة لـ«البنتاغون» الأميركي.
وهكذا، وبغض النظر عن كل ما تمت الإشارة إليه آنفا، فإن الأهم بالنسبة لكل ما يُتداول بالنسبة للأزمة السورية، التي غدت فعلا على مفترق طرقٍ صعب وخطير، هو: هل أنه لم يتم التطرق فعلا يا ترى للقضايا الإقليمية الشرق أوسطية الملتهبة وأهمها وأخطرها أزمة سوريا، أم أن هناك مخفيّا أعظم، وأن المستقبل سيكشف النقاب عما هو أخطر كثيرا من «سايكس – بيكو» عام 1916 التي يرى البعض أنها غدت في حكم المنتهية، وأن هذه المنطقة ستشهد رسم خرائط جديدة، حيث تنبأ المدير السابق لـ«C.I.A» الأميركية مايك هايدن باختفاء دولتين عربيتين قريبا.. «العراق لم يعد موجودا وكذلك سوريا.. ولبنان دولة باتت فاشلة.. والمرجح أن تكون ليبيا كذلك»، وحيث قالت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية إن «سايكس – بيكو» لم تعد تعكس الواقع على الأرض، فهناك الآن دول «داعش» و«القاعدة» والأكراد والسنة والشيعة والعلويين!!
إنه لا يمكن تصديق أنَّ اتفاقية النووي ومفاوضاتها لم تتطرق إلى القضايا الإقليمية الملتهبة وعلى رأسها الأزمة السورية التي باتت أكثر وأشد تعقيدا من ذنب الضب، وإلا ما معنى أن يقول وزير الخارجية الأميركي وهو في موسكو، خلال زيارته الأخيرة، إنه يسعى مع الروس لإيجاد مكان لإيران في حل هذه الأزمة؟ ولماذا يحرص الأميركيون حرصا شديدا على عدم ذكر المعارضة السورية إلا في مجال التأكيد على ضرورة تصديها لتنظيم «داعش» الإرهابي؟ ولماذا يحرصون (أي الأميركيون) على عدم استفزاز الروس والإيرانيين بالنسبة لكل ما يتعلق بالمنطقة العازلة التي اتفقوا عليها مع الأتراك والتي تشير كل التقديرات إلى أنها لن تكون مكرسة وفقط لـ«تنظيف» شمال سوريا من هذه المنظمة الإرهابية؟
وهنا، فإنه لا ضرورة إطلاقا لأن يقول الأتراك بعد اتفاقهم مع الأميركيين على المنطقة العازلة بعرض 50 كيلومترا وطول 90 كيلومترا داخل الأراضي السورية، والتي ستكون منطقة حَظْر طيران بالنسبة لسلاح الجو السوري، إنهم لا يعرفون ما إذا كان نظام الأسد غير قادر أم غير مستعد لمواجهة «داعش»، فهم يعرفون كل الحقائق التي جرى ذكرها آنفا حول هذه المسألة، وهم يعرفون أن هذا النظام بقي يسعى خلال الأعوام الأربعة الماضية لأن يتم تكليفه دوليا ووحده فقط بهذه المهمة، والمعروف أن الروس قد أفشلوا «جنيف 2» بالتمسك بهذه المسألة، وأن الإيرانيين «يتعيشون» سياسيا على هذا الطرح الذي لم يقنع أحدا والذي لا يمكن تمريره حتى على أصحاب أنصاف العقول.
ولذلك، وبالنتيجة، وحتى وإن بقي الأميركيون يركزون على أن الهدف حتى بعد اتفاقية النووي هو «داعش» وليس غيره، وحتى إن استمروا بالبحث عن طريقة تعطي الفرصة لإيران للمشاركة في أي حلٍّ للأزمة السورية، فإن المفترض أن ما قاله بشار الأسد في مهرجانه البائس يوم الأحد الماضي قد جبَّ ما قبله، فهو وصف الحل السياسي لهذه الأزمة بأنه «أجوف وعديم الفائدة» وهو أكد على أن جيشه «الذي يعاني من عجز في القوى البشرية» لن يحارب من الآن فصاعدا إلا في «المناطق السياسية والمناطق الاقتصادية.. والمناطق السكانية»، وهذا يعني أنه بات يفكر في حل واحد ولا شيء غيره، وهو حلَّ إقامة الدويلة المذهبية في الشريط الممتد من دمشق إلى الساحل السوري مرورا بالقرداحة بالطبع.
لقد قال الأسد، ويجب التوقف مليًا عند هذا القول، إن من لا يحارب معه ليس سوريًا، وإن سوريا لمن يدافع عنها، أي لمن يدافع عنه، أيًا كانت جنسيته.. ألا يعني هذا يا ترى أن هذه الدويلة الطائفية التي يجري الحديث عنها سيتم رفدها بالذين يعتبرهم مدافعين عنه، وسيتم تخليصها من الذين قصدهم بقوله: من لا يحارب معي ليس سوريًا؟!