Site icon IMLebanon

باريس والرئيس: لا لحكم فيشي

 

من غورو إلى ديغول إلى ماكرون

 

قبل أن تنتهي مرحلة الإنتداب الفرنسي على لبنان، انتهى تقريباً تأثير باريس في تقرير من يكون رئيساً للجمهورية اللبنانية. بين العامين 1920 و1943 كان المفوض السامي الفرنسي هو الذي يُعيّن ويُسمّي ويعزل، ولكن هذه السلطة بدأت بالإنحسار مع بداية عهد الإستقلال. بين فرنسا ولبنان تاريخ مشترك، أقلّه أنّ فرنسا الحرة هزمت حكومة فيشي في لبنان قبل أن تتحرّر باريس من الإحتلال الألماني. فهل تدعم اليوم قيام حكم حرّ فيه؟ أم تسعى لحكم فيشي؟

بين إعلان الجنرال غورو دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920، وبين أمر المندوب السامي الفرنسي جان هلّو باعتقال أركان دولة الإستقلال، ومعهم رئيس الجمهورية بشارة الخوري في 11 تشرين الثاني 1943، وقرار الجنرال كاترو الإفراج عنهم وإعلان استقلال لبنان في 22 منه، إنقلاب كبير في التأثير الفرنسي على القرار اللبناني.

 

تجارب رئاسية سابقة

 

بعد تكريس موقع الرئيس بشارة الخوري في رئاسة الجمهورية، غابت باريس عن القرار في انتخاب من تبوأوا بعده الرئاسة. انتخاب كميل شمعون عام 1952 كان بتأثير بريطاني أكثر مما هو فرنسي. وانتخاب فؤاد شهاب كان بتسوية مصرية – أميركية في العام 1958. بعد مشاركة فرنسا في حرب السويس عام 1956، إلى جانب بريطانيا وإسرائيل، ضد قرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم القناة، والتدخل الأميركي لوقف الحرب وفرض الإنسحاب الثلاثي، غادرت باريس موقع التأثير الكبير في منطقة الشرق الأوسط ومن ضمنها لبنان. لم تعد تلك القوة العظمى التي تستطيع أن تقرّر. ولم تعد تلك الدولة الكبرى التي كان بإمكانها أن ترسل جيشها إلى جبل لبنان بعد أحداث العام 1960 لتعيد إنعاش الوضعية المسيحية فيه، وتؤسس لقيام نظام المتصرفية في ظل السلطنة العثمانية.

 

في انتخاب شارل حلو عام 1964 لم يكن لها قرار. بل كان القرار بيد شهاب بالتنسيق مع عبد الناصر. وبعده لم يكن وصول سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا في العام 1970 إلا نتيجة توازن دقيق في اللعبة الداخلية، مع مؤثّرات مصرية وأميركية وسوفياتية، وبفارق صوت واحد. انتخاب الياس سركيس عام 1976 كان نتيجة تسوية سورية – أميركية بالدرجة الأولى. ووصل بشير الجميل وأمين الجميل عام 1982، ثم الياس الهراوي عام 1989، وإميل لحود عام 1998، وميشال سليمان عام 2008 وميشال عون عام 2016 من دون أن تكون الكلمة الفصل لباريس، وإن كانت لم تتخلّ عن لعب دور مساعد في حلحلة بعض الأوضاع اللبنانية في مراحل محدّدة. حتى أن الرئيسين المنغمسين في الثقافة الفرنكوفونية، شهاب وحلو، لم يكونا فرنسيَّين في الرئاسة.

شيراك والقرار 1559

 

قد تكون العاطفة الفرنسية تجاه لبنان طاغية على طبيعة علاقاتها معه، ولكن في الواقع السياسي ليست تملك قوة التأثير من أجل التغيير، والنوايا لا تنطبق في الأفعال. وقد يكون التأثير الفرنسي الأكبر في الواقع اللبناني، الدور الذي لعبه الرئيس جاك شيراك في إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي طلب سحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح «حزب الله». قيل إن هذا القرار وُلد في حزيران 2004 على شواطئ النورماندي، في ذكرى الإنزال الكبير الذي حصل في 6 حزيران 1944 ومكّن الجنرال ديغول من العودة إلى فرنسا الحرّة.

 

في ذلك اللقاء اجتمعت الإرادة الفرنسية مع إرادة الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، في مرحلة ما بعد أحداث 11 أيلول وبدء عملية تغيير وجه المنطقة. ولكن قبل أن تتحرّر فرنسا من الإحتلال النازي، كانت قوات فرنسا الحرّة تستعيد لبنان من قوات حكومة فيشي في 12 تموز 1941، ويزوره الجنرال ديغول في 26 منه، ويلقي خطاباً في بيروت يعد فيه بالاستقلال والسيادة، الأمر الذي تحقّق أيضاً قبل أن تتحرر باريس.

 

منذ ذلك التاريخ باتت مسألة استقلال لبنان وسيادته موضع مراجعة فرنسية دائمة. حتى مع الرئيس جاك شيراك، كانت هناك علامات استفهام كثيرة حول دعمه هذه السيادة عندما لم يكن حاسماً في موقفه من استمرار بقاء الجيش السوري في لبنان، قبل أن تطغى علاقته مع الرئيس رفيق الحريري على طبيعة العلاقة مع لبنان الدولة.

 

صحيح أنّ باريس أمّنت انعقاد ثلاثة مؤتمرات لدعم صمود لبنان الإقتصادي ولكنّها لم تستطع إنقاذه. بعد شيراك توالى على الإليزيه كل من الرؤساء نيكولا ساركوزي، وفرنسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، والثلاثة شابت عهودهم نقاط ضعف وفضائح متصلة بعلاقات مع رجال أعمال لبنانيين، في قضايا متعلقة بصفقات. صحيح أنّ الرئيس الحالي ماكرون استنفر وحضر إلى مرفأ بيروت بعد تفجيره في 4 آب 2020، وجال في الشوارع المتضررة والمنكوبة، وسمع نداءات استغاثة ومطالبات بعودة عهد الإنتداب، إلا أنّه لم يكن يملك أي إجابات. وبعدما دعا إلى تغيير السلطة الحاكمة لجأ إلى طرح تسويات تقليدية معها ومن ضمنها «حزب الله».

 

مرفأ بيروت بين 1982 و2020

 

لم تكن تلك هي النزلة الفرنسية الأولى على مرفأ بيروت. في العام 1982 أتت القوات الفرنسية من ضمن القوات المتعددة الجنسيات بعد الإجتياح الإسرائيلي. وفي 23 تشرين الأول 1983 خسرت باريس 58 جندياً بعد تفجير مقرّ المظليين الفرنسيين في منطقة الرملة البيضاء بعد دقائق على تفجير مقرّ المارينز الأميركيين قرب مطار بيروت. وكان «حزب الله» هو المتهم بتنفيذ العمليتين بواسطة شاحنتين مفخّختين قاد كلاً منهما انتحاري.

 

من اللافت أنه بعد 40 عاماً، حرّكت فرنسا الملف النائم عندما أرسل القضاء الفرنسي إلى النيابة العامة التمييزية في لبنان، في خطوة مفاجئة بمضمونها وتوقيتها، مراسلة يطلب فيها استجواب شخصين توافرت لديه شبهات حول تورّطهما في عملية التفجير هما يوسف وسناء الخليل. حصل ذلك بعد أقل من شهر تقريباً على بث التقرير المصور «حزب الله – التحقيق الممنوع» في فرنسا، وبعد حضور وفد قضائي فرنسي إلى لبنان لمتابعة تحقيقات خاصة في مسألتين: الأولى متعلقة بالاتهامات الموجهة إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في ملفات يتابعها القضاء الفرنسي، والثانية التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت.

 

ملفات نائمة بين فرنسا و»حزب الله»بين فرنسا ولبنان أكثر من ملف نائم له علاقة بـ»حزب الله». في أيلول 1981 اغتيل سفيرها في لبنان لويس دولامار، واتهمت وقتها الاستخبارات السورية بقتله من دون أن تحصل محاكمة في القضية. واغتيل عام 1986 أيضاً في الحازمية الملحق العسكري الفرنسي كريستيان غوتيار. وفي وقت لاحق للجريمة اعتُقِل أحد عناصر «حزب الله» حسين طليس، وكان عريفاً في الجيش اللبناني وهو يحاول أن يفجر سيارة مفخّخة. وحوكم في هذه القضية وحكم عليه بالسجن المؤبد. وتعرف السلطات الفرنسية أنّ مسلّحين هرّبوه في 24 شباط 1998 من السجن بعد نقله إلى مستشفى بحنّس للعلاج بحجة المرض. ومنذ ذلك التاريخ لم يعثر له على أثر. وهو كان يحاكم أيضاً بتهم تتعلّق بتفجير عدد من السيارات المفخّخة في المناطق الشرقية بين عامي 1986 و1987، وبتهمة محاولة اغتيال رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون بسيارة مفخخة في كانون الثاني1987.

 

الملحق العسكري غوتيير اغتيل قرب مقر السفارة الفرنسية في حي مار تقلا في الحازمية، عندما أطلق عليه طليس النار من مسدس كاتم للصوت. وكانت باريس قد نقلت سفارتها من بيروت الغربية إلى بيروت الشرقية بعدما كانت بدأت عمليات خطف الرهائن الأجانب في لبنان في مرحلة صعود «حزب الله» منذ عام 1982، ومن بين المخطوفين كان هناك عدد من الفرنسيين. على رغم ذلك حاول الرئيس ماكرون العبور إلى حل مسألة انتخاب رئيس للجمهورية من خلال «حزب الله» ومرشحه رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية.

 

أي رئيس تريد باريس؟

 

قبل ماكرون، اتصل هولاند بفرنجية عام 2015 ليبارك له ولكن المحاولة فشلت. لا يُفهم إصرار باريس على سلوك هذا المسار بينما ترسل استنابة تتعلق بطلب التحقيق مع متهمين بتفجبر مقرّ مظلييها في بيروت. وهي تعرف أنّ «حزب الله» يقف وراء العملية وأن التحقيق معهما ممنوع. ولا يُفهم كيف أنّ باريس استضافت اللقاء الخماسي، مع مصر وقطر والسعودية والولايات المتحدة الأميركية، الذي بحث في مسألة رئاسة الجمهورية، ثم حاولت التغريد خارج السرب.

 

في العام 1989 دعمت باريس بقاء العماد ميشال عون في قصر بعبدا على رغم التسوية التي تمّ التوصل إليها في الطائف، ودفع لبنان والمسيحيون ثمناً كبيراً نتيجة هذا الدعم والسياسة الفرنسية الخاطئة التي لم تمنع عملية 13 تشرين. ثم استضافت عون لاجئاً مدة 15 عاماً. اليوم يقف لبنان عند مفترق خطير لا يمكن حلّه عبر تثبيت وصاية «حزب الله» على الدولة اللبنانية. من الأفضل لباريس أن تعود إلى أساس القرار 1559 المطالِب بنزع سلاح «الحزب»، لا إلى التسوية مع هذا السلاح.

 

وأن تُقنع فرنجية بالإنسحاب من أن يكون مرشح الحزب الرئاسي، فهو لا يستطيع أن يتعهّد بأي شيء يتعلّق بسلاح «الحزب»، وبالعلاقة مع سوريا، وبعودة العلاقات مع المملكة العربية السعودية. ولا يمكنه الإكتفاء بالقول إنّه يزور المملكة إذا وُجِّهت الدعوة إليه. وهو ربّما لا يستطيع لوحده أن يعلن انسحابه، ففي انتخابات 2016 لم ينزل إلى مجلس النواب عندما طلب منه «حزب الله» ألّا ينزل. فكيف يمكنه أن يعارضه؟

 

المطلوب اليوم ليخرج لبنان من أزمته معروف. وهو إنهاء الإنقلاب على القرار 1559 الذي بدأ باغتيال الرئيس رفيق الحريري وتكرّس في عملية 7 أيّار ثم في تفاهم الدوحة. لا يمكن إنقاذ لبنان من خلال تكريس وصاية الحزب بعد الوصاية السورية. ولا يمكن أن تدعم باريس في لبنان حكماً يشبه حكم فيشي والجنرال بيتان تحت الإحتلال.