اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب في 26 حزيران
بالأمس كنا شيئاً واليوم اصبحنا شيئاً آخر. وما بين الشيء والشيء مات كلّ شيء. ما أقسى أن يتحوّل كل شيء، ولا ولا شيء، إلى إنسان، من لحم ودمّ، مات قبل الموت، بعدما ظنّ أنه قد عاد من جهنم التعذيب، من توقيفٍ قسري، جعله يكره حتى نفسه. في حزيران، في السادس والعشرين من هذا الشهر، يحيي العالم «اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب». لكن، هل حاول أحدنا أن ينتبه إلى معنى وبُعد التعذيب ليس على الشخص وحسب بل على المجتمع ككل؟ الآن، الآن بالذات، ثمة شخص ما يصرخ: خلصوني من جهنم. فهل ندير له الأذن الطرشاء؟ لا، على كل شخص لديه قناعات إنسانية أن يقرّر نوع الإحتجاج الذي يناسب قناعاته لكن علينا جميعاً الإحتجاج. هذا ما قاله مارتن لوثر كينغ. ماذا عنا؟ ماذا عنكم؟
لا للتعذيب. هذا ليس مجرد تعبيرٍ نضع آخره نقطة وننتقل الى سطرٍ جديد. فلنأخذ قراراً. حزيران هذا هو لمساندة ضحايا التعذيب عالمياً. فهل فكرتم كم هناك منهم في لبناننا هذا؟ هل فكرتم ماذا لو أصبحتم أنتم بدوركم واحداً (أو واحدة)، لسببٍ ما، من ضحايا التعذيب؟ من الآخر، ليس كل «المعذبين» في أقبية التوقيف مجرمين كما ليس كل من هم خارجها أبرياء. من هنا نبدأ.
«ريستارت» (Restart)، معناها في القاموس «إعادة التشغيل» أو لنقل الإقلاع من جديد. أما في الإسم والتطبيق، فقد نجحت ريستارت – جمعية إعادة تأهيل ضحايا العنف والتعذيب – على مدى ثلاثة عقود في رفع هذا الملف الخطير، ملف ضحايا العنف والتعذيب، على مختلف الصعد، خصوصاً في هذا الزمن الرديء الذي بات يفتقر فيه السجناء الى أدنى مقومات الكرامة، من مياه وطبابة ، وباتوا يتكدسون في سجون بلا محاكمات، في توقيفات قسرية تفوق مدتها العقوبة التي يمكن أن تصدر في حقهم.
في سجن روميه تتكرر العبارة: «همّ السجين الأهم يبقى الحرية «فالعمر لا يُعوّض» لكن، ما يحصل، هو أن المحاكمة تتأخر أعواماً. فبماذا يمكن التعويض على شاب، دخل الى السجن بعمر الثامنة عشرة، وخرج بريئاً وهو في الثامنة والعشرين؟ هل يجوز أن نطلق على الموقوفين صفة مجرمين قبل أن يصدر قرار إدانتهم؟ هل يعقل أننا وصلنا الى مكان أصبح فيه السجين يطالب: أرجوكم خذوا مني موقفاً؟ أصدروا بي حكماً؟ قرروا ما إذا كنت بريئاً أو مجرماً لكن لا تدعوني أبقى عشر سنوات أنتقل بين السجن والمحكمة ولا قرار؟
الموت مرّات
مشكلتنا حين نتعامل مع السجون «أننا نُعلّب الناس ونُعمم التهم. التعليب والتعميم غباء. نحن لا نسأل: لماذا وصل الموقوف الى السجن؟ ما الذي مرّ فيه، في حياته، وأوصله الى روميه مثلاً؟ نحن نقول هذا مجرم ونقطة على السطر. ما هذا الغباء؟ السجين لم ينزل بالمظلة الهوائية بل أتى من بيت وأسرة. هو ابن زوجين. المسؤولية إذا مركبة. انها مسؤولية المجتمع والعائلة والدولة ومسؤولية والدته التي لم تحبه والبطالة التي منعته من ايجاد العمل اللائق ووزارة التربية التي لم تؤمن له المدرسة والرعاية الاجتماعية التي لم تنجح بإحاطته بالرعاية المطلوبة. لا، لم ينزل هذا السجين من السماء بل اتى من مجتمع أوصله الى رتبة سجين. فلنعد الى ذيول التوقيف والسجن… ماذا عن أساليب التعذيب الممنهجة في سجون لبنان والمنطقة وما بعد بعد لبنان والمنطقة؟
إستمعنا الى كل من الدكتورة سنا حمزة- المعالجة النفسية في «ريستارت»- والرئيسة التنفيذية للمركز سوزان جبور تتحدثان عن التعذيب وفصوله: «إنه جريمة. من يتعرض الى تعذيب سيشعر بإهانة وبأن جسده لم يعد ملكاً له. ثمة ضرر هائل تتعرض له الضحية. هناك من يموتون في اليوم القصير مرات ومرات بعد خروجهم من توقيف قسري أو سجن».
ما يحدث أننا كبشرٍ أدمغتنا تستشعر الأخطار التي تطالنا شخصياً ونهمل ما يطال الآخرين. لذلك، لا بُدّ، بحسب حمزة – من أن نتكلم عن هذا النوع من القضايا حتى لو لم تمسنا مباشرة: «دعوا أدمغتنا تتعاطف وتتفاعل مع حالات التعذيب ولنأخذ كل حالة على حدة».
السؤال الذي يتبادر الى أذهاننا: ما هي الأدوات الفعالة لتوثيق التعذيب؟
نسمع في «ريستارت»، ونحن نسأل عن توثيق التعذيب، أسماء: بروتوكول إسطنبول والمحكمة الدنماركية وحقوق الإنسان وسجن بو غريب وسجون سوريا وإيران ولبنان…
تعرض «ريستارت» مجموعة صور مخيفة جمعتها وهي توثّق أساليب التعذيب. ثمة سجان «يُبوّل» على رأس سجين. هي صورة تعكس حقيقة سبق وحدثت في أكثر من سجن: «ثمة اعراض نفسية وسلوكية هائلة تترتب على هذا النوع من التعذيب النفسي. التعذيب أكثر إيلاماً من الحروب والزلازل والفيضانات وهو يوثّق إنتهاكاً حسياً مباشراً من شخص على آخر. تريدون أمثلة؟ ثمة سجين راح يصرخ في سجنه: عطشان. فقام السجان بفعلته عليه. فهل تتصورون بماذا شعر السجين حينئذ؟ هل تتصورون بماذا سيشعر جراء ذلك طوال حياته؟ هذا السجين خرج لكن بمشاكل صحية جمة. أصبح يقوم بحصر بوله لأنه كل مرة يشعر فيها بالحاجة الى ذلك يتذكر ما كان يفعله السجان. هذا السجين هو واحد من ضحايا التعذيب. شخصية السجين تتغيّر كلياً والآثار تشمل الفرد والعائلة والمجتمع. التعذيب قادر على كسر إرادة المجتمع ككل».
أكثر أشكال التعذيب تحصل في مراحل التوقيف الأوليّة: «فالهدف من التعذيب يكون أخذ إعترافات وانتزاع معلومات بطرق قسرية أو التلاعب بها. هناك من يستخدمون التعذيب ليضللوا التحقيق، لذلك تبيّن أن معظم حالات التعذيب تحصل في المراحل الأولى من التحقيق لا في السجون».
توثيق التعذيب
ثمة رسم مفتاح على اللوح في ريستارت. مهمة المفتاح أن يُشرع باباً أو عقلاً أو طريقاً… وبه، يفترض الدخول الى عقل السجين، فإذا قال: فعلوا بي هذا، يجب التأكد مما يقول من خلال فحوصات نفسية وجسدية. توثيق التعذيب ليس أمراً بسيطاً. مهمة المولجين بهذا الموضوع التأكد من مطابقة «الستوري» مع الوقائع الظاهرة. والمحاسبة تشمل بحسب إتفاقية مناهضة التعذيب، في مادتها الأولى: من ارتكب الجرم ومن حرّض ومن سكت ومن تواطأ.
جميل ما نسمعه. جميل أن نسمع عن محاولات جديّة وعمل دؤوب من «ريستارت»- ومن سواها- على توثيق حالات التعذيب ومناهضتها ووقفها. لكن، نعود لنسأل: ماذا عن أشكال التعذيب المعتمدة في لبنان وفي سواه؟ «هناك التعذيب النفسي، من حرمان من الشمّ والتذوق والرؤية. هناك تعذيب يقضي بوضع سجين الرأي خصوصاً في غرفة بيضاء، كل ما فيها أبيض، حتى الرداء الذي عليه ابيض وطعامه رز أبيض وبياض البيض، وهذا ما يجعله يعيش في لغط بين الخيال والحقيقة. يُصاب بالفصام. ما يجعله يخرج مهزوزاً. وهناك تعذيب – إستخدم في سجون سوريا- بالمياه التي تترك لتنزل نقطة نقطة على الرأس، مكونة حفرة فيه، وهذا ما يجعل السجين يصرخ: دخيلكم سأقول ما تريدونه. منع السجين من النوم تعذيب آخر أيضاً يؤدي الى إصابته باضطرابات وفقدان الإدراك ووقوع في الغيبوبة وصولاً الى الموت.
هناك من يستغل «الفوبيا» لدى الموقوفين في شكل من أشكال التعذيب. تحرص بعض السجون خصوصاً في عالمنا الثالث على وضع «مخابرات» في السجون ليعرفوا كل سجين مما يخاف وليعذبوه من خلال ذلك من اجل ان يفقد القدرة على التفكير. العزلة حرمان وتعذيب أيضاً وأيضاً. وتقول الدكتورة حمزة: حين يجرؤ السجين على رواية ما تعرض له، يشعر وكأنه قد تعرى كلياً، لذلك أطلب من الجميع عدم دخول الغرفة حفاظاً على خصوصيته».
أحد أساليب التعذيب
ثمة ما هو افظع بعد. ثمة سجون ليست بعيدة عنا كثيراً، يقوم من يمسكون بها بتركيع المساجين الواحد وراء الآخر، عراة، ويطلبون من كل شخص وضع أنفه في مؤخرة من يقرفص قبله والهتاف كما الماعز: ماءءءءءءءءءءءءءء!!! يا له من تحقير. يا له من عذاب.
التعذيب، كلمة تتردد يومياً على الألسن. كل اللبنانيين يواجهون أشكالاً وأشكالاً من التعذيب، لكن، ما لا ننتبه إليه هو أن هناك من ذهبوا الى جهنم وعادوا ولم يتمكنوا بعد من النجاة من براثن تعذيب مروا به. ثمة مراكز تعمل بكدٍ على نجدة هؤلاء- وأمثالهم- ريستارت واحد منها. ثمة لبنانيون – وغير لبنانيين – أوقفوا وعذبوا وسجنوا ويعذبون. ثمة سجون في لبنان وفي تدمر وفي صيدنايا وغيره وغيرها… عانى فيها من اعتقلوا قسريا الأمرّين. ثمة وجع كبير كبير. فلنتكلم عن هؤلاء هذا الشهر كثيراً. إنه شهرهم.