في الآونة الأخيرة درجت النسويّات والنسويّون، والمتعاطفون مع قضيّتهم، على تعداد المناصب الأولى التي باتت المرأة تحتلّها في بلدان عدّة وفي مؤسّسات دوليّة مختلفة. وهذا، من دون شكّ، إنجاز لا تعود ثماره على النساء فحسب، بل على التقدّم والبشريّة في عمومهما. لكنْ من دون شكّ أيضاً، فإنّ المكاسب التي تتحقّق في الصلب الاجتماعيّ، وتعكسها القوانين، تبقى أهمّ وأعمق أثراً من الأولى. وما يضاعف أهميّة هذه الإنجازات الأخيرة صدورها عن مجالس منتخبة، بحيث تنقل إرادة الأكثريّة الشعبيّة وتفعّلها، فلا تقتصر على مشيئة حاكم تحديثيّ الهوى يفرض صورته عن التقدّم والمساواة من علٍ.
وفي المعنى هذا فإنّ ما أقدم عليه قبل أيّام بلدان هما بولندا والباكستان غنيّ الدلالة وعظيم الفائدة. والبلدان المذكوران، الأوروبيّ الأوسط والآسيويّ، لا يوجد إلاّ القليل يجمع بينهما. لكنْ في عداد هذا القليل موقع الدين في البلدين والشعبين والثقافتين. ذاك أنّ باكستان إنّما نشأت في 1947 لتكون دولة للمسلمين في شبه القارّة الهنديّة، بينما غدت بولندا بولندا مع اعتناقها المذهب الكاثوليكيّ في العام 966.
على أيّة حال، مرّر البرلمان الباكستانيّ تشريعاً لطالما انتُظر، يسدّ على الرجال الذين يرتكبون «جرائم شرف» باب التهرّب من العقوبة التي يستحقّونها. فهؤلاء باتوا يواجهون أحكاماً بسجن يدوم 25 عاماً، فيما يُنتزع من عائلاتهم «الحقّ» في مسامحتهم وتبرئتهم، ويُردّ هذا القرار إلى الدولة والقانون حيث يجب أن يكون. ولأنّ معظم تلك الجرائم يتمّ بعد مباركة العائلات المعنيّة، كان أمر مرتكبيها يناط بدفع «الديّة» الذي لا يلبث أن يتلوه إطلاق سراحهم. وتقول «الغارديان» إنّ هذا التعامل البالغ السخاء أطلق وباء «جرائم الشرف» التي بلغ عددها الرسميّ، في 2015، 1096 جريمة، مع أنّ الصحيفة البريطانيّة تقدّر أنّ العدد الفعليّ أعلى كثيراً.
أمّا النوّاب البولنديّون فصوّتوا بأكثريّة ساحقة رافضين مسوّدة قانون يمنع الإجهاض منعاً شبه كامل. حدث هذا بعد تظاهرات نسائيّة وشعبيّة شملت ستين مدينة في البلاد، حيث لبست 100 ألف إمرأة ثياباً سوداء احتجاجاً على المسوّدة التي يراد منها جعل القانون المتشدّد أصلاً أكثر تشدّداً. ذاك أنّها تضيّق على هذا الحقّ حتّى في حالة الاغتصاب، مع تهديد النساء اللواتي يجهضن بعقوبة السجن.
أمّا التصويت الأخير فزاد في أهميّته حصوله على رغم رفض الحزب الحاكم، «حزب القانون والعدالة» الكاثوليكيّ والمحافظ، ضدّه، وضداً على دعمه المسوّدة البائسة. لقد قضت الضغوط النسائيّة والشعبيّة بإسقاط هذه الأخيرة التي لم يصوّت لها إلاّ 58 نائباً، فيما صوّت ضدّها 352.
وهذه وجهة كونيّة تعود بثمارها على 190 مليون باكستانيّة وباكستانيّ، وعلى 38 مليون بولنديّة وبولندي، وهي تحمل على الأمل وسط وجهات كونيّة أخرى تبعث على اليأس. بل ربّما جاز القول إنّ الحساسيّة الجديدة، العابرة للقارّات، في ما خصّ المرأة وحقوقها واحدٌ من العوامل التي تفسّر الظاهرات الارتداديّة المتكاثرة، وآخرها وأعلاها صوتاً وضجيجاً وخفّةً وبذاءةً الظاهرة الترامبيّة في الولايات المتّحدة.
ذاك أنّ شريط الفيديو الذي كشفته «واشنطن بوست» عمّا قاله دونالد ترامب في 2005 (وأكثر عباراته «احتراماً» للمرأة أنّك «تستطيع أن تفعل بالنساء ما تشاء إذا كنت نجماً»)، ينمّ عن نوع المواجهة التي يخوضها الارتداديّون اليوم، وعن نوع اللغة التي تتصدّر مواجهاتهم. فهم الخاسرون حتّى وهم يربحون، وهم الخاسرون حتّى لو ربحوا.