من حق من ينتصر على «داعش» أن يحتفل. هذا التنظيم خطر وجودي مريع. لا يمكن ترويضه. أو التعايش معه. الخيار واضح: تقتلعه أو يقتلعك. أطل «داعش» في صورة إعصار من الدم والوحل والظلام. مزق خرائط وأدمى مدناً قريبة وبعيدة. احتل سريعا الموقع الأول في لائحة الأخطار. تحول التخلص منه حاجة وطنية وإقليمية ودولية وإنسانية. كانت هزيمته حتمية خصوصا منذ اختار الإقامة في عنوان معروف.
يخطئ من يقلل من خطر «داعش». أو من أهمية الانتصار عليه. لكن يخطئ أيضا من يعتقد أن «داعش» هو المشكلة الوحيدة، وأن الانتصار عليه عسكريا يسهل العودة إلى ما كان قائما قبل إطلالته.
إننا لا نتحدث هنا عن عاصفة ضربت مدينة ويكفي ترميم النوافذ بعد ابتعادها. إننا نتحدث عن إعصار غير مسبوق هبَّ، وأقام واستقطب وقتل ودمّر وسبى. إعصار شطب الحدود العراقية – السورية ثم راح يرسل إشعاعاته في كل الاتجاهات.
من الخطأ أيضا تعليق كل الجثث على شماعة «داعش». لكنه كان بالتأكيد القاتل الكبير، سواء حين ارتكب، وسواء حين أعطى آخرين ذرائع الذهاب بعيدا في القتل. لا حاجة إلى الأرقام والجداول. إننا نتحدث عن مئات آلاف القتلى في الحروب التي اختلطت بحروب «داعش». وعن ملايين اللاجئين والنازحين. وعن خسائر بمئات المليارات وأرقام مماثلة لإعادة الإعمار. نتحدث عن جيوش من الأيتام والأرامل والمعوقين. قتل «داعش» من زعم أنه يريد أن يثأر لهم. وأعطى مزيدا من «الشرعية» لمن ادعى أنه جاء لمحاربتهم.
من حق المنتصرين على «داعش» أن يحتفلوا. من واجبهم في الوقت نفسه أن يتذكروا أن المقاتلين الجوالين لا يستطيعون استباحة بلاد إلا إذا كانت وحدتها الوطنية متصدعة ومصابة بشروخ عميقة. لا يعثر هذا الفكر الظلامي على ملاذات إلا إذا كانت هناك فئات موتورة ومهمشة ويائسة إلى درجة الاستعداد للتحالف مع الشيطان. لا يستطيع المقاتلون الجوالون استباحة دولة طبيعية تتسع لكل المكونات، وتملك دستورا عادلا ومؤسسات شرعية وطبيعية. يستطيع الإرهاب التسلل إلى دولة متماسكة وإقلاقها، لكنه لا يستطيع التحصن فيها وبناء ملاذات آمنة ومعاهد تدريب لإنجاب أجيال جديدة من الناحرين والمنتحرين.
لا يستطيع الإرهاب التكفيري العثور على معاقل في بلاد إلا إذا كانت تعيش أزمة تعايش وتسيل بين مكوناتها مياه الكراهية والحذر وتحين الفرصة للانقضاض. وبصورة أوضح يمكن طرح السؤال هل كان «داعش» سيتمكن من الاستيلاء على الموصل لو كانت العلاقات السنية – الشيعية طبيعية والشراكة مؤمنة على قاعدة المواطنة؟ وهل كانت وحدات الجيش ستستسلم أمام هجوم «داعش» وبمثل هذه السرعة لو كانت تشعر أن مشاعر أهل المدينة تحصنها ضد المهاجمين؟
ثمة فارق بين الانتصار في معركة ضد تنظيم إرهابي والانتصار في الحرب على الإرهاب. الانتصار الكبير يكمن في توظيف الانتصار العسكري الذي تحقق وكلف تضحيات كبيرة في التصدي بشجاعة للأسباب التي سهلت الانهيار واستعجلته. الانتصار الكبير يعني بناء الاستقرار. والعنوان الوحيد لبناء الاستقرار هو بناء الدولة بمعناها العصري. أي دولة الشراكة الوطنية والمؤسسات والمساواة أمام القانون. ومن حسن حظ العراق أن جيشه الذي مثل سقوط الموصل جرحا في سيرته نجح وبفعل تضحيات هائلة في اقتلاع التنظيم من الموصل وها هو يقتلعه من تلعفر. لا بد للعراق من جيش قادر حتى ولو ساهمت قوى أخرى في معركة التصدي لـ«داعش». لا نقول الجيوش لتتصاعد شراهة الجنرالات في الإمساك بالسلطة، بل لتكون للدول الطبيعية جيوش طبيعية مرجعها الدستور تضمن سلامة الأرض والناس.
ما كان لـ«داعش» أن يرتكب ما ارتكب على أرض العراق لو خاض السياسيون العراقيون معركة بناء الدولة غداة إسقاط نظام صدام حسين بعيدا عن مشاعر الثأر والإحباط، ورفض التكيف مع الوقائع الجديدة. إننا نتحدث هنا عن ضياع عقد كامل من عمر العراق انتهى بالوقوع في فخ «داعش».
لنترك الماضي على رغم عبره الكثيرة. حصل العراق الحالي على دعم إقليمي ودولي في حربه على «داعش». سألت أحد المنخرطين في هذه الحرب فأجابني أنها كانت ستمتد سنوات لولا الغارات الأميركية. المطلوب اليوم توظيف كل هذا الدعم الدولي والإقليمي والتعاطف العربي الواضح في تحويل الانتصار إلى فرصة استقرار. ولا حل هنا غير العودة إلى منطق الدولة والمؤسسات والابتعاد عن أسلوب الغلبة وتصفية الحسابات القديمة. لن يستطيع العراق العبور من الانتصار إلى الاستقرار إلا إذا اعتبرت الأكثرية أن الشراكة الوطنية تفرض الاحترام الكامل لحقوق المكون العربي السني، بعيدا من سياسة تنصيب ممثلين للسنة لا يحظون بتقدير مدنهم وبلداتهم. وعلى المكون السني إبداء القدر اللازم من الواقعية وطي صفحة الحنين إلى الماضي.
للانتقال من الانتصار إلى الاستقرار لا بد من التوقف عند الأسئلة التي طرحها هبوب الإعصار الذي ينحسر اليوم. ثمة استحقاق آخر يواجهه العراق في سبتمبر (أيلول) وهو الاستفتاء على الاستقلال في إقليم كردستان العراق. أنا من الذين يعتقدون أن الأكراد قد يختارون البقاء في الخريطة العراقية إذا حصلوا داخل هذه الخريطة على حقوقهم وحريتهم والضمانات الكافية. وإذا كان حيدر العبادي لعب دورا استثنائيا في توفير الظروف لدحر «داعش» فإن موضوع تفادي الطلاق مع كردستان يستحق محاولة أخيرة. وشرط النجاح أن يمتلك العبادي التفويض الكامل لتقديم ما يقنع الأكراد أن مستقبلهم في الخريطة العراقية أفضل منه خارجها.
الانتصار العسكري لا يكفي. لا بد من مشروع استقرار. ولا فرصة للاستقرار من دون خوض معركة بناء الدولة العصرية والعادلة. كل كلام آخر يشكل تفريطا في تضحيات الناس وربما يفتح الباب لهبوب الإعصار لاحقا تحت تسميات جديدة. العراق المستقر حاجة عراقية وعربية ودولية. والعربي توجعه بغداد حين تكون جريحة أو حزينة أو مهيضة الجناح.