للمرّة الألف، هناك عودة إلى السؤال نفسه. ماذا بعد انتهاء معركة الموصل أو معركة الانتهاء من الموصل؟
من يعود إلى الظروف التي رافقت سيطرة «داعش» على الموصل قبل ثلاث سنوات، إبان حكومة نوري المالكي، ثم هزيمة «داعش» في ظل حكومة برئاسة حيدر العبادي، يكتشف أن الهدف لم يكن تحرير الموصل بمقدار ما أنّ المطلوب تدمير المدينة وتهجير أهلها بشكل منهجي.
قبل كلّ شيء، يبدو الدمار شبه الشامل الذي لحق بالموصل من النوع الذي لحق بمدن ألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. لم تبقِ طائرات التحالف الأميركي ـ الأوروبي وقتذاك شيئاً من مدن عدّة في سياق السعي إلى إلحاق الهزيمة بألمانيا الهتلرية وتركيعها.
استطاعت ألمانيا النهوض مجدداً بعد الحرب وأعادت بناء مدنها بفضل حيوية الشعب فيها والمساعدات الأميركية التي صُرفت بواسطة «مشروع مارشال» الذي وضعه وزير الخارجية الأميركي الجنرال جورج مارشال.
لم تلبث ألمانيا أن عادت بلداً مزدهراً بعدما تعاطت مع الهزيمة تعاطياً واقعياً. قبلت بأن تكون مقسّمة، الى ألمانتين، وأن تكون فيها قوات أجنبية تمتلك قواعد خاصة بها. انتظرت ألمانيا خمسة وأربعين عاماً كي تستعيد وحدتها. تخلّت ألمانيا نهائياً عن فكرة المغامرات العسكرية المحسوبة أو غير المحسوبة. حصل طلاق بين ألمانيا والحروب والأطماع الخارجية. ودّعت ألمانيا السلاح الى غير رجعة من أجل العيش بأمان مع محيطها ومع العالم. المفارقة أن هزيمة العراق في مرحلة ما بعد الاجتياح الأميركي في 2003 وقبلها مرحلة الخروج من الكويت بالقوّة، تميّزت بمزيد من الحروب التي صبّت في تفتيت البلد وتدمير مدنه الواحدة تلو الأخرى كي لا تقوم له قيامة في يوم من الأيّام.
لنفترض الآن أن الحرب توقفت فعلاً في الموصل. هل من جهة على استعداد لتقديم مليارات الدولارات كمساعدات لإعادة بناء المدينة المدمّرة؟ لنفترض أن أهل الموصل عادوا إليها، الى أين سيعود هؤلاء؟ مثل هذا النوع من الأسئلة مشروع في ضوء ما حل بالموصل بوجود رغبة واضحة في الانتهاء من المدينة الثانية في العراق ومما كانت تمثله من قيّم ميّزت العراق القديم، أي عراق ما قبل العام 1958.
يبدو أنّه ليس مطلوباً الانتصار على «داعش» فحسب، بل المطلوب أيضاً الانتهاء من كلّ ما بقي من قيم حضارية وإنسانية قام عليها المجتمع العراقي. حافظت تلك القيم على إمكان إعادة الحياة الى العراق قبل أن يأتي الاحتلال الأميركي ويقضي نهائياً على كلّ أمل بذلك.
تكمن المشكلة الأساسية في أن العراق ليس ألمانيا وأنّ الذين دمّروا الموصل لا يريدون عودة أهلها إليها. يشمل ذلك الجانب الأميركي الذي كانت له مساهمة فعّالة في هزيمة «داعش» عندما ساند القوات النظامية العراقية وميليشيات «الحشد الشعبي» التابعة لإيران عن طريق سلاح الجو.
ليس معروفاً بعد ما هي خطة أميركا في العراق. حسناً، هُزم «داعش». كان لا بدّ من إلحاق الهزيمة بهذا التنظيم الإرهابي، الذي لم يترك شيئاً إلّا وفعله من أجل تشويه صورة الإسلام عموماً وأهل السنّة على وجه التحديد، وذلك لتبرير ما يرتكبه «الحشد الشعبي». ما هو بالضبط المشروع الأميركي الجديد في العراق، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ سلاح الجوّ الأميركي لعب دوراً محورياً في هزيمة «داعش»، هذا إذا كان يمكن الكلام عن «داعش» كتنظيم مستقلّ عن الذين خلقوه، أي إيران والنظام السوري…
منذ توصّل «داعش» الى السيطرة على الموصل، بطريقة مشبوهة وغامضة في الوقت ذاته، في حزيران 2014، وصولاً الى التاسع من تمّوز 2017 تاريخ إعلان حيدر العبادي بملابسه السوداء استعادة المدينة، تمهيداً لإعلان «النصر النهائي» في اليوم التالي، ليس هناك ما يشجع على التفاؤل. كلّ ما في الأمر أن العراق في وضع من ينتقل من سيّئ الى أسوأ. ليس ما حصل وما يحصل في الموصل سوى تتويج لرحلة التراجع العراقية.
لم تبدأ مسيرة التراجع العراقي في 2014 أو 2017. بدأت قبل ذلك بكثير، قبل تسعة وخمسين عاماً عندما حصل الانقلاب العسكري الذي أطاح النظام الملكي في 14 تمّوز 1958، لم يتوقف سيلان الدمّ منذ ذلك اليوم الذي اغتيل فيه فيصل الثاني. لم يكن النظام الملكي في العراق مثالياً. لا شكّ أنّه كانت هناك أخطاء كبيرة ارتكبت، خصوصاً، تصرّفات الوصيّ على العرش، الأمير عبد الاله (خال فيصل الثاني)، لكنّ العراق كان وقتذاك بلداً واعداً. كان وضع المجتمع العراقي أفضل، كانت المدن العراقية مدناً تضجّ بالحياة كان فيها عيش مشترك بين الكردي والعربي والتركماني. لم يكن من تمييز بين المسيحي والمسلم والشيعي والسنّي. كان اللبناني والسوري يهاجر الى العراق بحثاً عن فرصة عمل وتكوين ثروة صغيرة. كان العراق مختلفاً. لم يكن أرضاً طاردة لأهلها. كان أرضاً جاذبة للآخرين الذين كانوا يريدون الاستفادة من كلّ ما يمثله العراق، بما في ذلك الجامعات العراقية.
ليست الحاجة الى تعداد الأسباب التي جعلت العراق يعود الى خلف بكلّ هذه السرعة، خصوصاً منذ العام 2003 والمغامرات المجنونة التي قام بها قبل ذلك صدّام حسين.
كلّ ما يمكن قوله الآن إن الانتصار على «داعش» تحوّل للأسف الشديد الى انتصار على الموصل وأهل الموصل وذلك في ظلّ انفلات للغرائز المذهبية التي تستثمر فيها إيران صاحبة المشروع التوسّعي في المنطقة.
خلال أيّام سيرفع كثيرون شارات النصر، مرّة أخرى، في الموصل. لن يعني رفع شارات النصر أنّ مليوناً من أهالي الموصل سيعودون إليها، كما لن يُسمح لهؤلاء بالانتقال الى مناطق عراقية أخرى، خصوصاً بغداد. هل حصل انتصار في الموصل، أم كان هناك انتصار على الموصل للانتهاء من المدينة وتحويلها الى شيء آخر، على غرار ما يحصل في تكريت حيث ظهرت أخيراً صور آية الله الخميني و«المرشد» علي خامنئي؟