التفاصيل الصغيرة التي يجري إلهاء الرأي العام بها، على أساس أنّها السبب في تَعثُّر تأليف الحكومة وما يليه من تسويات، ليست سوى تغطية للعقدة الحقيقية التي تُختصر في أن لا قرار حالياً بإنتاج حلّ، وأنّ المطلوب إبقاء الساعة اللبنانية مضبوطة على ساعة الإقليم، ولاسيما على الساعة الإيرانية – الأميركية.
في بلدٍ يفتقد مقوِّمات القرار المستقلّ، ويَدخل في انهيار عميق وشامل، من السذاجة تصوير «الزعماء» الذين يتصارعون وكأنّهم أقوى من المجتمع الدولي ورغبتِه في إيجاد حلّ، وأن «قُوَّتَهم» هي التي تتكفَّل بإحباط الضغوط الأميركية وتعطيل المبادرات الفرنسية وتَحدِّي المطالب السعودية!
هؤلاء «الزعماء»، تُحرِّكهم في الغالب قوى خارجية مباشرةً أو بالواسطة، أو تسمح لها بالتحرُّك وفق ما تقتضي المصلحة، وفي حدود هذه المصلحة لا أكثر. وهذه القوى يمكن أن تتقاطع أو تتصارع في لبنان. لكن معظمها بقي لسنوات طويلة يدعم مسار الفساد الذي سلكته غالبية الطبقة السياسية. فالفساد هو الوصفة المثالية لإضعاف الدولة وإسقاطها، وتالياً فرض الإملاءات على البلد.
إذاً، ما يُمكن أن يُحدِث خرقاً في جدار الملف الحكومي والتسويات الداخلية ليس فعلاً التوافق بين القوى الداخلية، بل التسويات الإقليمية والدولية الكبرى التي ربما تُطلّ إشارات منها، باتفاق أميركي- إيراني محتمل في فيينا، حيث ينتظر الإيرانيون اتفاقاً يكرّس لهم أكبر مقدار من النفوذ في الشرق الأوسط.
الاتجاه الأرجح هو أنّ إدارة الرئيس جو بايدن مستعدة للعودة إلى الاتفاق النووي بنسخته الأصلية، في العام 2015، ومن دون تعديل. والملامح هي اتخاذها قراراً برفع الحظر عن إيران في مجال النفط والشحن والمصارف وبعض العقوبات عن شخصيات إيرانية.
هذه الصيغة ترضي الإيرانيين كثيراً لأنّها تمنحهم مجدداً هامش التحرّك والاستفادة من موارد هائلة لتفعيل نفوذهم الإقليمي، كما فعلوا بين 2015 و2018، عندما أعاد الرئيس دونالد ترامب فرض العقوبات. وعلى الأرجح، هم سيواصلون في الخفاء بناء برنامجهم للتسلّح النووي الذي يتردَّد أنّه بلغ مراحل متقدّمة.
طبعاً، الأميركيون لن ينقادوا إلى هذا المَخرج بسهولة. ويصرّون علناً على الربط بين العودة إلى الاتفاق النووي وإيجاد حلول لمسألتي نفوذ إيران الإقليمي والصواريخ البالستية. وهم أوحوا بأنّ الاتفاق في فيينا لن يكون قريباً بالمقدار الذي يتحدث عنه الإيرانيون، لأنّ التوافق حول الملفات الثلاثة المتداخلة يستغرق شهوراً إضافية.
الإيرانيون سبق أن راهنوا على الوقت، وتحمّلوا أسلوب «الضغط الأقصى»، وتمكنوا من تنفيس عقوبات ترامب عليهم. واليوم، وفيما الضغط متراجع، في ظل إدارة بايدن، فإنّهم لن يستعجلوا التسوية. وسيمارسون سياسة «النفَس الطويل» ما داموا لا يملكون شيئاً يخشون خسارته.
ويسود اعتقاد في طهران أنّ واشنطن جادَّة في إنهاء تورُّطها في أزمات الشرق الأوسط، ولاسيما في المجال العسكري، بأي ثمن، وممارسة نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة بـ»الريموت كونترول». وهذا الاتجاه أرساه باراك أوباما، ولكن أيضاً حافظ عليه ترامب الذي لوَّح كثيراً باستخدام القوة العسكرية في المنطقة، لكنه لم يفعل.
ويتَّخذ الإيرانيون من النموذج الأفغاني دليلاً إلى صوابية رهانهم على «الصبر». فعلى رغم التقديرات التي توحي بأنّ الحكومة الأفغانية ستسقط في أيدي «طالبان» بعد أشهُرٍ من الانسحاب الموعود للقوات الأميركية، فإنّ واشنطن تُصرُّ على انجاز الخطوة قبل نهاية العام، أياً كانت العواقب.
والاتجاه التراجعي الأميركي يريح طهران في مجمل نقاط الاشتباك مع واشنطن في الشرق الأوسط، بما في ذلك لبنان. وهذا ما يسبِّب القلق للحلفاء، ولاسيما المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
يشعر الإيرانيون في فيينا بأنّهم على وشك أن يربحوا الجولة الجديدة، لا بحسم المعركة في وجه واشنطن، بل بـ»تراخيها» وانسحابها التلقائي من المواجهة. وهذا الأمر يمنح طهران القدرة على توسيع هامش تَحَرُّكها في كل نقاط نفوذها الإقليمي، من اليمن والعراق وسوريا إلى لبنان، وربما غزّة.
وفي لبنان، يعني ذلك أن الأزمة ستسير على إيقاع النتائج التي ستظهر في مفاوضات فيينا. فإذا ظهرت معالم التوافق، سيحصل لبنان على حصته من التوافق. ولكن، إذا انخرط الأميركيون والإيرانيون في مسار طويل من المفاوضات الصعبة حول الملفات المتشابكة جميعاً، كسلّة واحدة، فهذا يعني أنّ لبنان سيمضي في اهترائه الثقيل، حتى إشعار آخر. ولكن، بالنسبة إلى «حزب الله»، لن يكون الأمر سيئاً في أي حال:
إذا نجح الإيرانيون في جذب بايدن إلى الاتفاق النووي، بلا تعديل، وتركوا الملفات الأخرى إلى مرحلة لاحقة من النقاش، فستكون إيران رابحةً ومعها «الحزب».
وإذا غرق الإيرانيون والأميركيون في مفاوضاتٍ طويلة حول سلّة الملفات المتشابكة، فسيكون لبنان ضحية الوقت المهدور، وستكون مؤسساته عرضةً لاهتراء لا حدود له. وفي هذا الاهتراء، لن يُصاب «حزب الله» بالخسائر. وعلى العكس، سيكون الرابح الأكبر كما هو رابح اليوم.
وفي الحالين، وفيما البلد يقترب من استحقاقات نيابية ورئاسية حسّاسة، سيكون «الحزب» قوياً بما فيه الكفاية لفرض خياراته، وسيتمنّى كثيرون أن يكونوا تحت جناحه لينجوا برؤوسهم، فيما يتلمَّس الآخرون سبيلاً للبقاء.