إن قرّر أحد الخروج من الوحول السياسية اللبنانية وتجنّب اوساخها التي فاضت من المواجهات الداخلية، عليه متابعة مساري المفاوضات الجارية في فيينا كما على خط طهران – الرياض. فلكل منهما تأثيره المباشر على موازين القوى الداخلية. وإن تمّ ذلك لا بدّ من رصد تحرك قطاري التسوية الكبرى والثانوية، ورصد السباق الجاري بينهما، بعد استبعاد التقائهما عند محطة واحدة. وعليه، ما الذي كشفته التقارير الديبلوماسية؟
من بين مجموعة الملاحظات والنصائح التي أسداها اكثر من موفد دولي وإقليمي وأممي ممن كُلّفوا بملف لبنان، الى المسؤولين اللبنانيين، كانت واحدة قديمة العهد لم يلتفت اليها أو يأخذ بها أحد من كبارهم. وهي كانت تقول بضرورة عزل المعالجات الجارية للقضايا الداخلية قدر الإمكان عمّا يجري في المنطقة. وخصوصاً انّ كنتم تريدون الاحتفاظ بالمظلّة الدولية الحامية للوضع الداخلي على اكثر من مستوى اقتصادي ونقدي وسياسي واجتماعي، ولا سيما الوضع الأمني بالدرجة الاولى.
ومردّ ذلك، باعتراف أبرز هؤلاء الموفدين، الى معادلة ثابتة كانت تقول، انّ معظم الأطراف المنضوية في إطار الحلفين الكبيرين المتصارعين على ساحات المنطقة، ومن خاضوا أقسى الحروب على الساحتين السورية والعراقية قبل اندلاع حرب اليمن وأحداث الخليج العربي المتفرقة، ما زالوا يصرّون على إبعاد لبنان عن تداعياتها، لإبقائه ملجأ آمناً للنازحين السوريين بعد العراقيين والفلسطينيين. فهو لا يحتمل بتركيبته الهشة واقتصاده الضعيف أي ردات فعل من تلك التي يمكن ان تتركها المواجهة القائمة على اكثر من ساحة، وقد جُنّدت لها قدرات عسكرية واقتصادية وديبلوماسية هائلة.
وعليه، يعترف مرجع ديبلوماسي عتيق، بأنّ هذه المعادلة التي حكمت الساحة اللبنانية وتحكّمت باستقرارها وهدوئها، بقيت ثابتة بالرغم من حجم الحروب المحيطة بها والتي اندلعت منتصف آذار العام 2011، من محافظة درعا السورية، وتوسعت رقعتها منتصف العام 2014 عند بزوغ فجر «داعش» في الموصل في العراق قبل ان تجتاح الحدود السورية – العراقية، فألغتها بعد سيطرتها على مساحات واسعة من الدولتين، حتى غمس أحد مقاتليها رجليه بمياه البحر المتوسط على الشاطئ السوري شمال مدينة اللاذقية في صيف العام 2016، قبل اسابيع قليلة على الحملة الروسية مطلع الخريف لمواجهة سيطرتها على الساحل الشمالي السوري.
لا يريد الديبلوماسي التوغل أكثر في ما جرى في تلك الفترة، ومدى انعكاسه على الوضع المتردي في لبنان، ليشير الى أولى علامات ربط الساحة اللبنانية بالساحات الملتهبة في سوريا والعراق نتيجة حرب الجرود في آب 2017 وما تبعها من تظهير للدور الذي لعبه «حزب الله» في اليمن كأحد أذرعة ايران في المنطقة، وسط عجز الحكومات اللبنانية عن الفصل بين دور الحزب الداخلي ودوره الإقليمي. وبدل التبرؤ منه باشر بعض أهل الحكم بتبنّي مهمّته الخارجية، فكانت ردّة الفعل الاقليمية والدولية بوضع لبنان الرسمي من أعلى الهرم الرئاسي وحلفائه على اللائحة عينها، لمطالبته بوضع حدّ للحزب. وعندها بدأ مسلسل الأزمات الحكومية يتواصل إلى ان انفجر الوضع الاقتصادي والنقدي والمعيشي تزامناً مع انتشار جائحة الكورونا على مستوى العالم. وزاد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2019 من هول الكارثة، وبدأ السقوط الكبير نحو الهاوية، بعدما تجاهل اهل الحكم ما اشارت اليه انتفاضة 17 تشرين الأول العام 2019 من رسائل بليغة، فكالوا لها الاتهامات التي لم تمنع البعض من أركان السلطة الى تبنّيها بكل جرأة اقتربت من معنى الوقاحة.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات، تناولت معظم التقارير الديبلوماسية التي تابعت الوضع في لبنان، نظرية تقول، انّ انغماس بعض اللبنانيين في حروب المنطقة أنهى كل ما قيل عن الرعاية الدولية للوضع فيه. وبات البلد المنهار الذي يعاني من أسوأ ازمة نقدية ومالية ومعيشية بلا غطاء دولي، زادت منه بعض التصرفات العدائية تجاه الخليج العربي وقادة مجلس التعاون الخليجي تحديداً، فبات لبنان ورقة على طاولة المفاوضات الايرانية بشقيها القائم في فيينا حول ملفها النووي، وذلك الذي استضافته بغداد بين طهران والرياض، في محاولة لكسر الحال العدائية بينهما وترتيب اوضاع الخليج العربي وإبعاد شبح العمليات العسكرية التي طالت شركة «أرامكو» السعودية في حقل شيبة النفطي في الرابع عشر من أيلول العام 2019، فاهتز الإقتصاد العالمي بسبب استهداف أكبر حقوله النفطية.
وإن توقف المراقبون الديبلوماسيون أمام هذه المحطة، لأنّها عبّرت بشكل من الأشكال عن الربط الذي بات قائماً بين الحرب الدائرة بين الحلف الدولي وحلف الممانعة، بالرغم من احتساب لبنان الرسمي وجيشه من جيوش «الحلف الدولي»، منذ الإعلان عنه قبل سنوات عدة وتحديداً في 11 أيلول العام 2014 من مدينة جدة السعودية، حيث انضمت 10 دول عربية من بينها لبنان، الى الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة لشن حملة عسكرية منسقة ضد تنظيم «داعش». وبات لبنان بإرادة جزء من بنيه وبتبنٍّ من كبار مسؤوليه عن رغبة او عن عجز بالمواجهة، مدرجاً على لائحة الدول الست التي بنى فيها الإيرانيون جيشاً من جيوشها الستة في المنطقة العربية، وهو أخطرها وأكبرها، بالنظر إلى قربه من اسرائيل، حيث الاراضي الفلسطينية المحتلة.
وبناءً على ما تقدّم، بات كل الوضع في لبنان معلقاً على حبل الإنتظار المشدود على مسارين، أحدهما منصوب بأحد طرفيه في فيينا حيث تجري المفاوضات بشأن الملف النووي الايراني من جهة، والحبل الآخر المنصوب بين بغداد وعمًان وعُمان حيث تجري المفاوضات السعودية – الايرانية المباشرة، والتي تتناول في جانب منها ساحات التوتر بينهما مما يجري في اليمن والمنطقة الممتدة من باب المندب الى خليج هرمز امتداداً الى الساحة اللبنانية.
وعند الأخذ في الاعتبار للمواقف الأميركية والروسية والأوروبية والايرانية المتناقضة حيال ما يجري في فيينا وانعكاساته على لبنان وصعوبة استقصاء ما يمكن ان تؤدي اليه المفاوضات المباشرة بين ايران والسعودية، يبقى لبنان معلقاً على حبل الانتظار، وسط صعوبات عدة من ان تأتي مفاوضات فيينا بما لا يخرج عن الملف النووي وشؤونه التقنية والأمنية، إن انتصرت النظرية الايرانية التي ترفض الربط بين قدرتها النووية وأي ملف آخر اقليمياً كان او دولياً. وعندها سيبقى لبنان على قارعة الطريق ينتظر ملف المفاوضات المباشرة بين إيران والسعودية المحفوفة بالمخاطر، مخافة ان تتجاهل خصوصية الوضع في لبنان، فيبقى مصلوباً بانتظار نصيبه من التفاهمات الدولية. ومن قال انّه سيكون هناك حل يُرضي اللبنانيين بدلًا من ان يكون على حسابهم جميعاً على قاعدة «كلن يعني كلن».