Site icon IMLebanon

الحسابات خاطئة والأسوأ هو الآتي!

 

جاءت الحرب في أوكرانيا في لحظةٍ كان فيها الأميركيون والإيرانيون على وشك إبرام تسوية. وحتى الآن، لم يتضح تماماً تأثير هذه الحرب على مسار فيينا: هل ستتضامن طهران مع الحليف الروسي الذي ساعدها طويلاً على فكّ الحصار الأميركي، أو تستفيد من لحظة القطاف مع واشنطن، المستعجلة لسدِّ الثغرة الإيرانية والتفرُّغ لروسيا؟

في هذه المسألة، يبدو لبنان معنياً جداً. ففي الأشهر الأخيرة، أقامت السلطة كل رهاناتها الداخلية والخارجية على أساس معلومات ديبلوماسية دقيقة، مفادها أنّ التسوية في فيينا أصبحت مسألة أسابيع قليلة، وأنّ إبرامها سينعكس انفراجات على مجمل الملفات اللبنانية الساخنة. بل إنّ التسوية ستفتح الباب لإبرام تفاهمٍ وطني جديد في لبنان، عبر مؤتمر ترعاه القوى الإقليمية والدولية المعنية.

 

«كلمة السرّ» التي وصلت إلى منظومة السلطة دفعتها إلى اعتماد خطوات موقّتة تسمح لها بالصمود وإمرار الوقت، لبضعة أسابيع أو أشهر، وبعد ذلك تأتي المَخارج تلقائياً. وهذه الخطوات هي الآتية:

1 – عودة مصرف لبنان إلى نهجه التقليدي، أي استخدام احتياطاته من العملات الأجنبية لتجميد انهيار الليرة. وهو النهج الذي اعتمده حتى خريف 2019 بتغطية القوى السياسية، وأوصل إلى الكارثة.

2 – إطلاق وعود خادعة لصندوق النقد الدولي بالتجاوب مع شروطه الإصلاحية، والإيحاء بتجهيز خطةٍ للتعافي يتمّ على أساسها التفاوض في الربيع. ولكن، واقعياً لا إصلاحات ولا خطط.

3 – الإيحاء بالسعي إلى إقرار موازنةٍ عامة تتلاءم وخطة التعافي.

4 – إظهار استعداد لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، في 15 أيار.

5 – التعاطي بمقدار من المرونة مع ملف المفاوضات حول الحدود البحرية وتقاسم الموارد الغازيّة، والتعاطي بمرونة مماثلة مع طلب الأميركيين استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، على رغم ما يستثيره ذلك من احتمال انخراط لبنان في منظومة التطبيع الشرق أوسطية، من بوابة الطاقة.

 

وقامت حسابات قوى السلطة، في هذه المرحلة، على كسب الوقت داخلياً، لثلاثة أشهر حداً أقصى، يتمّ خلالها «تخدير» اللبنانيين من وجع الدولار ظرفياً، ما يقلّص من الاحتقان الاجتماعي. فإذا اضطرت السلطة، لضرورات دولية، إلى إجراء الانتخابات في أيار، يصبح سهلاً إقناع الناس بالاقتراع مجدداً لقوى السلطة أيّاها، فتكرِّس نفوذها لـ4 سنوات أخرى، بل 6 سنوات، لأنّ هذا المجلس سينتخب رئيس الجمهورية المقبل.

وكذلك، تعتمد قوى السلطة نهج المماطلة والتسويف في الملفات المفتوحة مع صندوق النقد، وفي ملفات ترسيم الحدود وأزمات الطاقة.

وفي الواقع، لا ترغب هذه القوى في حسم أي ملف عالق، لا داخلياً ولا خارجياً. وهي تدرك أنّ عمق المأزق الحالي إقليمي ودولي، وتراهن على أنّ التسوية في فيينا ستتكفل بتقديم المخارج. وعلى أساسها، سيقرِّر الإيرانيون ما سيأخذونه وما سيعطونه للأميركيين وسواهم في لبنان. وعنذاك يكون لكل حادث حديث.

ولكن، لا تبدو حسابات قوى السلطة في محلها تماماً. فالمدة التي قدَّرتها للصمود ليست كافية على الأرجح. والتسوية التي كانت متوقّعة في فيينا بين شباط وآذار تأخّرت عن مواعيدها. فهي قد تفاجئ الجميع في أي لحظة، إذا قرّر الإيرانيون عزل أنفسهم عن الحليف الروسي والإفادة من استعجال الأميركيين. لكنها أيضاً قد ترتبط بمسارات التفاوض حول أوكرانيا وتبتعد.

 

يعني ذلك أنّ الأكلاف المقدّرة لإمرار المرحلة لبنانياً يمكن أن تصبح مضاعفة، بحيث يصعب على لبنان وسلطته تحمّلها، خصوصاً أنّ الحدث الأوكراني نفسه شكّل ضغطاً إضافياً عالياً جداً على الواقع الإقتصادي والمالي المهترئ في لبنان. وهذا ما بدأ يظهر من خلال:

1- الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية، واضطرار مصرف لبنان إلى تكبّد أكلاف إضافية للمواجهة، وبدء اهتزاز سعر الدولار للمرة الأولى منذ أكثر من 3 أشهر. وإذا كانت خسائر المصرف من التدخّل في السوق قاربت المليار و300 ألف دولار في الفترة القصيرة التي انقضت، فأي أفق يُتوقع الوصول إليه في فترة الشهرين الفاصلة عن الانتخابات، وماذا عمّا بعدها؟ وماذا لو طارت هذه الانتخابات؟

2- أقفل موفدو صندوق النقد الدولي آذانهم بعدما يئسوا من وعود السلطة اللبنانية، وبعدما اكتشفوا أن لا خطة نهوض قيد الإنجاز ولا تدقيق ولا تحقيق ولا التزام لبنانياً بأي بند إصلاحي، لا في توحيد أسعار الصرف ولا خطة للكهرباء، ولا حتى موازنة عامة في الأفق.

3- دخل ملف الترسيم مرحلة حسّاسة. فالإسرائيليون يريدون التحرّك في حقل «كاريش» والبقعة المحاذية للحدود مع لبنان. وسيكون لزاماً على الجانب اللبناني أن يحسم خياراته في هذا الملف، لجهة التسوية أو المواجهة.

 

إذاً، «ساعةُ الرمل» التي وضعتها قوى السلطة، وعلى أساسها تمارس اليوم لعبة التسويف، بدأت تؤشر إلى الخواتيم. وبالتأكيد، لن تكون هذه السلطة قادرة على «الصمود» في خطتها للمماطلة أشهراً أخرى، إذا شاءت الظروف الدولية والإقليمية تعثُّر التسويات الكبرى.

ولن يتحمّل مصرف لبنان نزف مليارات أخرى من مخزون دولارات قليلة، هي أساساً ما بقي من أموال المودعين. ولن تتحمَّل السلطة فرض رسوم وضرائب جديدة على الجائعين المنهوبة ودائعهم ورواتبهم ومدّخراتهم.

ولن يتحمّل لبنان إدارة الظهر للمؤسسات والقوى الدولية المانحة، وركيزتها صندوق النقد، ولا طبعاً دخول لبنان المنهار في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، على خلفية الصراع حول الخط الحدودي ومخزونات الغاز. وسيكون من حظّ لبنان تسريع التسويات الكبرى. ولكن:

أولاً، مَن يَضمن أنّ المسار الدولي ذاهب فعلاً نحو التسويات لا نحو الاستنزاف، من مواجهات أوكرانيا إلى مفاوضات فيينا؟

وثانياً، في ظلّ منظومةٍ هاجسها المنافع ورعاية المصالح الخارجية، مَن يَضمن ألّا تأتي التسويات على حساب لبنان ومصالحه، كما تمَّت سابقاً؟