المراهنون على تسوية لبنانية داخلية كُثُر، أما أكثرهم سعياً ورصداً ومتابعة من أجل خلق الظروف المؤاتية لهذه التسوية فهو رئيس مجلس النواب نبيه برّي، بوصفه الراعي المحلي الوحيد لأي تسوية بغياب رئيس الجمهورية، والذي سبق أن نجح في إعداد أكثر من «بروفا» لهذه التسوية ورعاها، بدءاً من الحوار الثنائي بين تيار «المستقبل» و»حزب الله» وصولاً الى طاولة الحوار الموسّعة.
رهانات رئيس المجلس على هذه التسوية انطلقت منذ أن بدأت تلوح في الأفق ملامح اتفاق نووي بين الغرب وإيران. انتظر طويلاً حتى وُلد هذا الاتفاق فانفرجت أساريره. سأله آنذاك أحد روّاد ديوانه الليلي في عين التينة «متى يحين موعدنا في لبنان»، فسارع الى القول: «الآن فُتحت البوابة الخارجية للتسوية، بعد ذاك يفترض انتظار فتح الأبواب الداخلية وأعني بذلك الحوار السعودي الإيراني الذي لا بدّ أن يكون أحد نتائج هذا المسار».
انتظر أسابيع من دون جدوى الى أن جاء موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (أيلول الفائت). سأل أكثر من ديبلوماسي زائر للبنان أو معتمد فيه عمّا إذا كان ثمّة أفق للقاء سعودي إيراني في نيويورك، فجاء الجواب أن الرياض ليست في وارد الجلوس الى طاولة واحدة مع طهران قبل إنجاز ملف اليمن.
بنى رئيس المجلس على هذا المعطى نظرية خالفت تحليلات كثيرة: «الوضع اللبناني ليس مرتبطاً بالكامل بالوضع السوري المرشّح لمزيد من التعقيد.. يمكن إحداث ثغرة في جدارنا اللبناني المسدود في حال سُجّل تقدّم ملحوظ في ملف اليمن»، قال لروّاد الديوان. وبالفعل أعلن الحوثيون وعلي عبدالله صالح الأسبوع الفائت قبولهم القرار 2216 والدخول في محادثات للأمم المتحدة، قبيل إعلان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن الحرب في اليمن قد تنتهي «قريباً».
نتيجة لهذا الموقف وافقت المملكة العربية السعودية على الجلوس الى طاولة واحدة مع إيران في اجتماع فيينا الأخير المعني بالملف السوري، في خطوة اعتبرها كثيرون بادرة «ردّ بالمثل» على قبول حلفاء إيران في اليمن بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. فيما اعتبرها الرئيس برّي «فاتحة» لتسويات كبرى في المنطقة: «ليس قليلاً ما يجري في اجتماعات فيينا، ثمة تغيير واضح في مواقف الدول. ما يتسرّب عن هذه الاجتماعات شحيح لكن المؤشرات واضحة والمواقف أكثر وضوحاً. لقد دخلنا في مرحلة جديدة عنوانها التسويات».
ولأنّ ملف لبنان أسهل بكثير من ملفّات المنطقة بدءاً بسوريا وصولاً إلى العراق، باعتبار انّ مفتاحه يقتصر على انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا أكثر ولا أقلّ، يعتبر رئيس المجلس أنّ مسار فيينا آخذ في التقدّم «رغم العراقيل والعقبات الكثيرة التي لا تزال تعترضه». ولا يستبعد أن يكون حوار فيينا الدولي الاقليمي «فاتحة» لتفعيل الحوار في لبنان، أي ترجمته أفعالاً.. حتى إذا ما سارع أحدهم إلى الاستفسار عن الموعد المحتمل لهذا «التفعيل»، جاء جواب برّي واثقاً: «لننتظر الشهرين المقبلين، لا بدّ أن يكون مطلع العام المقبل (2016) حافلاً بالتسويات الاقليمية واستطراداً المحلية».
ويذكّر رئيس المجلس المتحلّقين من حوله بوجهة نظره لدى انطلاق الحرب الجوّية الروسية في السماء السورية، عندما سارع إلى الاعتقاد أنّ هذا التدخّل العسكري سوف يفتح الباب أمام تسوية سياسية لسوريا، وأنه كان على يقين من أنّ هذه الخطوة لا يمكن أن تتمّ من دون تفاهمات بعيدة عن الأضواء تؤسّس لتحوّل في الوضع السوري في اتجاه التسوية.
كما يذكّر بإصراره السابق على وجوب إيجاد اطار للحوار في لبنان من أجل أن يكون وعاءً جاهزاً لتلقّف أي تسوية اقليمية، باعتبار أنّ الدول التي كانت ترعى تسويات لبنانية أصبح كلّ منها طرفاً في الصراع الاقليمي، ما دفعه إلى التلميح أمام أركان طاولة الحوار الموسّعة إلى «دوحة» لبنانية بعد أن صار متعذّراً اللجوء إلى الدوحة أو إلى أي عاصمة أخرى في ظلّ انشغال كل دول المنطقة بأولويات أخرى.
معنى ذلك أنّ دعوة رئيس المجلس إلى الحوار الثنائي ومن ثم الموسّع لم تكن ترفاً أو مصادفة، وإنّما على إيقاع «حوارات» خارجية، أو بالتوازي معها، بحيث تتقدّم خطوة في بيروت كلّما تقدّمت أخرى في الخارج، على ما يقول مصدر مقرّب منه يذهب إلى الاعتقاد أنّ مفاوضات فيينا أعادت السكّة إلى مكانها.. وانطلق القطار.