لطالما اقترنت طرابلس بالقضايا العربية والإسلامية والإنسانية وارتبطت بالنضال من أجلها، من فلسطين القضية الأكثر قرباً وتأثيراً إلى سوريا الشريكة في التحرّر من الانتداب الفرنسي، فمصر بمختلف عهودها والجزائر بثورتها وشهدائها المليون.. غير أنّها سقطت في بؤرةٍ سوداء أردتها فيها السلطة المركزية وتولّى تعميقها معظم نوابها والرؤساء الذين تولَّوا تمثيلها، والذين عجزوا عن إعادة الازدهار إليها في زمن السلم.
لم تعد الدولة بالفعل إلى طرابلس بعد انتهاء الحرب، وبقيت قضايا كثيرة معلّقة ولم يشمل أبناءها إدماج الميليشيات في الدولة، ولم تحصل على حقوق أبنائها من صندوق المهجرين فبقيت مئات المنازل والأبنية متصدعة ومهدّدة بالسقوط، لأنّ معادلة المحاصصة السياسية كانت الطاغية والباغية على حقوق المتضرِّرين.
ترافق السطو على مشاريع طرابلس مع عدم السماح بتركيز الأمن وفرض القانون بشكل كامل، بل خضع تطبيقه للمحسوبيات وتقلّب العهود والنفوذ، وهذا ما أدّى إلى شيوع المخالفات، واحتلال المشاعات على نطاق واسع في أبي سمراء والقبة بشكل خاص… وبعض الأحداث التي طرأت في الأيام الأخيرة استوجبت إعادة طرح إشكالية الفوضى المتحكِّمة بالمدينة، وكأنّها لعنةٌ لا تنتهي وكأنّ المطلوب أن تبقى جـُزُرُ الميليشيات غير المعلنة مسيطرة على مساحاتها العامة والخاصة.
مناسبةُ تجديد الحديث عن هذه الإشكالية هو الحريق الذي طال المخالفات القائمة على سطح نهر أبو علي يوم 16 تشرين الأول 2023 والممتدّة على مساحات كبيرة من سطح النهر الذي كان يفترض أن يشكل جزءاً من مشروع إحياء الإرث الثقافي لطرابلس، وكان من أهدافه تحويل هذه المنطقة وعمقها الممتدّ من القلعة التاريخية شاملاً الأسواق القديمة إلى منطقة سياحية نموذجية حطّمتها أنانياتٌ محليّة وخرّبتها حساباتٌ ضيقة.
لم يكن هذا الحريق الأول الذي يطال هذه المخالفة، بل سبق أن تعرّضت لحريق كبير آخر في شهر تموز من العام 2019. واللافت أنّ أحداً لم يفكِّر في التعامل مع هذا الاحتلال السافر لهذه المساحة الكبيرة من سقف نهر أبو علي ولم يتحرّك احدٌ لإزالتها، لا بل عاد المسيطرون عليها واستأنفوا ما يفعلونه: فهم إمّا يديرون خيماً أو يؤجرونها لآخرين، خلافاً للقانون… فمن عجائب هذه المخالفة أنّ كثيراً من الأشخاص استأجروا خيماً على سطح النهر من المجموعة التي تحتله خلافاً القانون، ثم عندما احترقت بضائعهم استصرخوا الهيئة العليا للإغاثة ونواب وفاعليات طرابلس للتعويض عليهم.
تسرّع بعض النواب، وأبرزهم اللواء أشرف ريفي في الدعوة إلى التعويض عليهم، وهذا كان يستدعي مراجعة وتدقيقاً لأنّ التعويض على هؤلاء يعني تشريعاً لمخالفاتهم… وإنّ إثارة هذا الموضوع الآن له هدفٌ واضح ومحدّد، وهو أن يكون الحريق الذي حصل مناسبة لإعادة فرض القانون وتجنّب الشعبوية في المواقف وعدم السماح باستمرار سيطرة عصابات الشوارع على المدينة.
ما لا يريد كثيرون الاعتراف به هو أنّ سقف نهر أبو علي تحوّل في جزئه الأكبر مكاناً يختفي فيه الكثير من الموبقات ويتلطى فيه الكثير من الممارسات الخارجة عن القانون والأخلاق، بينما جزء آخر يجري استثماره في عملياتٍ تجارية منخفضة الإنتاج، لتكون الفوضى هي السائد والمسيطر على المكان.
لماذا تركت بلديةُ طرابلس التي يتعارك مجلسُها رئيساً وأعضاء على مدار الدورات والسنوات، هذه المخالفة تتضخّم لتصبح كما السرطان تحتاج عملية جراحية كبيرة لاستئصالها؟ مَن المسؤول عن غياب قوى الأمن الداخلي وعن دورها في قمع وإزالة مخالفةٍ بائنةٍ شاسعة على الملك العام، ومن غطّى كلّ هذا الحجم من المخالفات المركّبة على سطح النهر، ولماذا الاستمرار في السكوت عنها؟
وبقدر فداحة مخالفة سطح النهر، تبرز مخالفة أخرى لا تقلّ عنها خطورة وهي قيام بعض المتسلّطين بالاستيلاء على عقار يقع قرب مركز الصفدي ضمن معرض كان قد اشتراه صاحبه بهدف إقامة سوبرماركت عليه، وأدّت الظروف الاقتصادية إلى تأجيل إطلاق المشروع، فقامت مجموعة من الأشخاص باحتلاله وتحويله إلى معرض للسيارات وأقاموا على العقار تعديات. والفضيحة الكبرى هي أنّ المدّعية العامة الرئيسة ديما ديب أصدرت حكماً بإخلاء العقار بعد أن قام جهاز التحري بالتحقيق ولم يستطع تبليغ محتلي العقار فحولت الملف الى قاضي التحقيق في الشمال ولكن لم يتم تعيين قاضي تحقيق في القضية.
إنّ الأزمات لا تبرِّر الفوضى، فالحياة مستمرة ولا تتوقف بسبب أحداث غزة رغم تأثيرها المعنوي على الجميع، ولا بدّ من الإقرار بأنّ الفوضى مدخل للمزيد من الإفقار وضرب الاقتصاد، وانتشار الاقتصاد الوهمي، وإعادةُ فرض القانون على سطح نهر أبو علي امتحان لوزارة الداخلية وبلدية طرابلس، أمّا عدم إزالة المخالفة عن عقار محتلّ لمستثمر جاء إلى طرابلس ليبثّ فيها شريان حياة وعمل وإنتاج، فإنّه عارٌ على كلّ المتلكّئين في إنفاذ القانون وإعادة الاعتبار لكرامة المدينة التي أُهينت باحتلال هذا العقار بالتحديد.