بعد انتقادات وجهها كتاب ومثقفون لبنانيون لمظاهر من العنف مارسها متظاهرون مشاركون في الحراك المدني الجاري، ظَهَر من اتهمهم بالنفاق بأنهم أيدوا وشجعوا العنف في الثورة والحرب في سورية لكنهم يدينونه في لبنان.
وفي مضبطة الاتهام أن المحذرين أفرطوا في التهويل من أخطار تجدد الحرب الأهلية مسقطين على الواقع الحالي، ليس فقط ذاكرتهم المرضوضة بالحرب، بل ايضاً فشلهم في تبؤّ أي موقع خلالها وبعدها، او تحقيق اي من رؤاهم لخواتيمها، فجمعوا الفشل الشخصي والسياسي والثقافي.
الأمر ليس كذلك.
عودة يسيرة الى مقالات وكتابات من حذّروا في بدايات الثورة السورية من زرع بذور العنف في الحراك اللبناني، نجد ان هؤلاء – جميعاً – كانوا من اشد الحريصين على سلمية الثورة السورية. وأنهم ندّدوا بالقتل الوحشي الذي مارسته اجهزة النظام السوري منذ الأيام الأولى من الثورة في آذار (مارس) 2011.
تستدعي هذه الحقيقة البسيطة عودة إلى الوثائق والوقائع معاً. في الوقائع أن من اتهم الكتاب الرافضين لنزعة العنف في الحراك، لم يرَ كيف دفع بشار الأسد وأنصاره الثورة، عن سابق تصور وتصميم، إلى العنف، وأن حمل المعارضين السوريين لنظامه على اعتماد القوة والعنف وسيلتين للتخاطب لم يكن خياراً من خيارات الثورة بل من الدروب التي دُفعت اليها بهدف جرها الى الساحة التي يحسن النظام اللعب فيها والتي يفلح عليها في تفجير تناقضات السوريين ويحول دون تشكيلهم بديلاً وطنياً عنه من خلال اللعب على الأوتار الطائفية والجهوية والإثنية. وقد نجح.
في الوثائق، أي الأرشيف الذي باتت شبكات المعلومات توفر دخولاً سهلاً إليه، أن منتقدي العنف في لبنان كانوا قد ندّدوا به في سورية وحذّروا من المآلات التي يفتحها الانخراط في عنف عام سيكون للنظام فيه اليد العليا وسيربط الثورة بمنطق الحرب واقتصادها والخضوع لمصالح من يُسلّح ويُموّل.
النفاق وعدم الاتساق وازدواجية المعايير تظهر اذاً عند المتهمين وليس عند المُحذّرين. فعندما يتمسّك كاتب أو صحافي لبناني بتأييد الثورة السورية حتى في طورها المسلح ورغم دخولها في أنفاق مظلمة، تكون العبرة من ذلك أن تأييد حق الشعب السوري في اختيار مصيره ونظامه وشكل السلطة فيه واستعادة كرامته التي يدوسها نظام البعث منذ أكثر من خمسين سنة، لا يتغيّر بتغيّر الأسلوب الذي يسعى هذا الشعب بواسطته إلى تحقيق هذا الهدف. الاعتراض على العنف ينبغي ان يكون موجهاً الى الجانب الذي استدخل العنف الى الثورة السلمية في المقام الأول.
أما القول إن ثمة تهويلاً في التحذير من خطر انفجار العنف في لبنان وما شاكل، فيعكس ضلالة التصور أن الوضع في لبنان استقل عن تبعيته للوضع الإقليمي وأن في الوسع عزل الحراك المدني الحالي عن السياسة بما هي – في لبنان – تقاسم الطوائف للغنيمة. وهذا تقاسم يأخذ في احيان شكل التوافق وفي احيان اخرى شكل الحرب الأهلية وهو دائماً مغطى برضى او تحريض خارجيين.
وإذا كان الشباب هم من يقودون هذا الحراك، الا ان ذلك لا ينفي تفرق هؤلاء على طبقات وأنواع. وقد تجد أشدهم حماساً للعنف أكثرهم استعداداً للهروب من البلد عند اندلاع النار فيه، وترك أصحابه الذين شدّ همتهم بكلامه في أتون الحرب وتنّورها. وهذا سلوك لبناني اصيل، لا صراع اجيال فيه ولا حوله.