إنتهى الجزء الأوّل من مسلسل تحرّكات «التيار الوطني الحرّ»، تحت شعار استرجاع حقوق المسيحيين، ليبدأ بعدها المسيحي المؤيد للاعتراض العوني والمعارض له بتقويم الوضع العام والنتائج التي أسفرت عنه، في ظل غياب رؤية مسيحيّة واضحة وطغيان الضياع.
بعيداً عن صخب الشارع والتجييش المذهبي والطائفي، يتعلّق مسيحيّو لبنان بأي شيء من أجل الخلاص، مثل الإنسان الذي لا يعرف السباحة ويسقط في بحر هائج، فيتمسّك بأي قطعة ترمى له، حتى لو كانت من الحديد لكي ينقذ حياته، مع معرفته أن الحديد سيغرق ويغرقه معه.
يجمع المراقبون السياسيّون على أنّ رئيس تكتل «التغييّر والإصلاح» النائب ميشال عون، رجل حديديّ، لا يلين أو يستكين، ويمثّل شريحة واسعة من المسيحيين. لكن في السياسة، ليست المواقف الحديديّة هي الحل، وخصوصاً إذا ترافقت مع نار ملتهبة تقترب من بلاد الأرز، ليُصبح فعلاً بلد العيد «مزروعة عالداير نار وبواريد».
الحديث عن نار وبواريد ليس كلاماً شعرياً أو شعارات ترفع لتطويق الاعتراض العوني، بل يترافق مع تحذيرات ديبلوماسية وتقارير وصلت إلى القادة والمسؤولين، تطالب بأخذ أقصى درجات الحيطة والحذر في هذه المرحلة، والالتفات إلى الحدود وتحصينها لكي لا يقع المحظور، لأن التحسّب للأسوأ واجب حتّى لو كانت الأحداث بعيدة.
ولعلّ التطورات الميدانيّة العربيّة تحتّم على الداخل التحصّن سياسياً وأمنياً، والابتعاد عن «الخربطات»، وبالتالي لا يمكن المسيحيين الذين نادوا دائماً بحياد لبنان وإغلاق حدوده، أن يكونوا سبباً في إلهاء الجيش عن تنفيذ مهامه، وهم الذين عانوا تاريخياً تدفق السلاح والمقاتلين من الجمهورية العربية المتحدة خلال ثورة 1958، من ثم عبور الفدائيين الفلسطينيين ومحاولتهم جعل لبنان وطناً بديلاً لهم.
الحكمة والرويّة مطلوبتان إلى أقصى درجة، وتبريد النفوس وعدم شحنها مذهبياً هي الصلاة الواجب على اللبناني تلاوتها يومياً. فمطالب المسيحيين محقة، لكن الأسلوب الذي شهدناه الأسبوع الماضي هو خطأ وربما خطيئة.
لا مصلحة مسيحيّة في نقل الصراع السنّي- الشيعي على مستوى المنطقة، إلى صراع مسيحي- سنّي يستحضر شعارات الماضي، ولا مصلحة لهم أيضاً في نقل الصراع إلى ماروني- ماروني يترجم هجوماً على قيادة الجيش التي تشكل حاضنة وطنية جامعة وبارقة أمل وضمانة للمسيحيين وسط انهيار الجيوش العربية وتمدّد الإرهاب.
وقد أدّت قيادة الجيش دوراً مهماً في تحقيق مطلب مسيحي أساسي، وهو وقف أعمال ردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت بالتنسيق مع بكركي، فكان تدخّلها حاسماً في وقف الردم، في وقت لم تتمكّن الأحزاب المسيحيّة التي تتمثّل بسبعة وزراء في الحكومة، باستثناء «القوات»، و40 نائباً في البرلمان، من إنهاء هذا الملف الذي وصل إلى خواتيمه السعيدة بما يرضي المسيحيين بعد تدخل قيادة الجيش.
يريد المسيحيّون فعلاً العودة إلى الشراكة الحقيقية، لكن هناك باب يختصر كل هذه المسافة، وأسهل بكثير من أسلوب عون، وهذا الباب يتمثّل بالتنازل عن المصالح الشخصية والعائلية، وجلوس المسيحيين معاً لتزكية رئيس للجمهورية، عندها يستطيعون استرجاع حقوقهم لأنّ الحكومة لا تؤلف بلا توقيع الرئيس، وهذه أهم صلاحيات رئيس الجمهورية.
ومن خلال الحكومة يتمكّن المسيحيون من استعادة حقوقهم وإعادة التوازن إلى مؤسسات الدولة وإقرار قانون انتخاب عادل، وخصوصاً أن القوتين السنيّة والشيعية لا ترغبان في الصدام مع المسيحيين، الذين يبدو وضعهم في لبنان أفضل بكثير من بقية المذاهب التي تغرق في حرب المنطقة الكبيرة.
بصرف النظر عن القيادات السياسيّة التاريخيّة، ففي الأمس، كان للمسيحيين عقول تفكر وأدباء وشعراء يضعون رؤية لمجتمع أفضل، أمثال شارل مالك، سعيد عقل، فؤاد افرام البستاني، إدوار حنين، جواد بولس، وأنطوان نجم. أما اليوم، فإنَّ أحد القيادات المسيحيّة الكبار يأخذ أفكاراً من منظّرين شكلوا غطاءً مسيحياً للاحتلال السوري، وكانوا شركاء في سلب حقوق المسيحيين، وإذ بهم يطالبون باستعادة الحقوق المسيحيّة المسلوبة، وهنا ينطبق عليهم شعار: «حاميها حراميها».