ما كُتب حتى اليوم عن زيارة هوكشتاين الاخيرة لبيروت وما نُسج من روايات حولها، يمكنه ان يعكس محادثات استمرت لثلاثة ايام على الاقل، وليس بما استهلكته من الساعات الخمس. وخصوصاً انّ الزيارة جاءت في شكلها ومضمونها على نحو «غارة» اميركية اودعت معطياتها الاستباقية قبل ان تبدأ، لدى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي تنبأ بها قبل غيره من المسؤولين، وانتهت نتائجها حصرياً بكل اسرارها لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي سيواكب ما يمكن ان تنتهي اليه.
كان ذلك قبل ان تسبغ الديبلوماسية الاميركية عليها «لمسات خاصة» ومفاجئة، عبّرت عنها اللقاءات التي عقدها هوكشتاين للمرّة الأولى مع وفد يمثل الكتل النيابية المعارضة واخرى تقليدية، كان لا بدّ منها، وعُقدت في صالة الزوار الكبار في مطار بيروت الدولي ووُصفت بأنّها كانت «على الواقف»، ما خلا تلك اللحظات التي استهلكتها الصورة التذكارية.
قد تكون هذه القراءة – التي نسجها مصدر واسع الاطلاع ولم يأت اي خبر على ذكره بعد – أفضل ما يمكن ان تُطلق على هذه الزيارة القصيرة، في انتظار المراحل اللاحقة التي يمكن ان تُترجم نتائجها وما يمكن ان تقود إليه في الطريق المؤدي الى اي حل يُنهي ما يجري من بحور الدم الذي يسيل في قطاع غزة وجنوب لبنان منذ ان أُطلقت عملية «طوفان الاقصى» وما واكبها منذ الساعات الاولى من «حرب إلهاء وإسناد» امتدت على مدى الاشهر الخمسة التي تلتها وتوسعت لاحقاً لتشمل اليمن وسوريا والعراق. كذلك عكست الترددات التي تركتها العمليات العسكرية وما خُصّص لها من قدرات تدميرية هائلة. ولم تنجح بعد الحملات الديبلوماسية في لجمها او التخفيف من وطأتها والحدّ من توسعها بطريقة مأسوية رُسمت استباقياً.
ويضيف المصدر، انّ ما هو متوقع من أحداث ما زال في علم الغيب والتقدير. وإن كان لا يمكن أي كان احتسابها او تقديرها، نظراً الى ما يمكن ان تأتي به من انهيار كبير على مستوى الأمن والسلم الدوليين. وفي معزل عمّا يمكن ان تنتهي اليه، فأنّها تثيرالمخاوف مما هو منتظر من أزمات متعددة الوجوه، لن تقف عند حدودها السياسية والديبلوماسية، وربما اتخذت وجوهاً اقتصادية وأمنية خطيرة جداً تتعدى ما انتهت إليه من مآسٍ كبرى.
ويتابع المصدر، انّ هذه الأحداث هي التي قادت هوكشتاين مجدداً الى بيروت والمنطقة، في مسعى يقود الى خريطة طريق رسمتها الادارة الاميركية له، وهي تُلخّص بثلاث محطات أساسية يأمل في تحقيقها:
– أولها، السعي الى تهدئة الوضع في الجنوب عبر بوابة القرار 1701. فهو المسلك الطبيعي الذي يقود الى وقف العمليات العسكرية فور التهدئة المرتقبة في غزة، لاستحالة القيام بأي خطوة في لبنان قبل ان تصل مساعي التهدئة في غزة الى ما يُراد لها.
– ثانيها، العمل على إنهاء الوضع الشاذ على الحدود اللبنانية الجنوبية طالما انّه لم تجر اي مقاربة قال بها القرار 1701 لإقفال النقاش حول النقاط المُختلف عليها، سواءً سُمّي «ترسيماً برياً» أو «إظهارا للحدود» كما يسمّيه اللبنانيون بالعودة الى تثبيت الحدود الدولية المعترف بها منذ العام 1923 مع فلسطين المحتلة.
– ثالثها، تحرير البحر مما يعاني من جمود لفّ العمل على البحث عن الثروة النفطية والغازية في البلوكات اللبنانية، وتجميد العمل في حقل كاريش منذ ان انطلقت العمليات العسكرية، نتيجة المخاوف من اي امرعسكري قد يطاول منشآتها، بعدما جُمّدت عقود التأمين الدولية الخاصة بها نتيجة ارتفاع نسبة المخاطر إلى أقصاها.
وبالإضافة الى اشارته الى هذه العناوين الثلاثة، قال المصدر المطلع، انّ الفريق الذي يواكب هوكشتاين في مهمّته بقي في بيروت، وهو يعمل على وضع الأطر المؤدية الى الاعلان عن «اتفاق إطار» جديد يؤسس للمرحلة المقبلة، وما تفرضه المفاوضات المقبلة من تحضيرات تمهّد لها بالتعاون مع فريق بري المنغمس في تفاصيله بصفته أحد طرفي الثنائي الشيعي قبل ان يكون رئيساً للسلطة التشريعية. وهو جهد يأخذ في الإعتبار كل الخيارات التي يمكن خوضها في المستقبل، وما يمكن ان تحتاجه من دراسات تراعي الجوانب القانونية والديبلوماسية والمالية والإقتصادية. كما مواجهة ما طرأ من مستجدات هدّدت ما انتهى إليه اتفاق «الترسيم البحري» من اهتزاز كبير عبّرت عنه ملاحظات اميركية قالت انّ هناك خروقات كبيرة طاولت ما تمّ التفاهم في شأنه، الى درجة هدّدت ما وفّره من ضمانات، وقد تبخّر بعضها أخيراً. فالاتفاق المضمون اميركياً فرض على الطرفين اللبناني والاسرائيلي إجراءات لم تُتخذ كاملة ضماناً للاستثمارات الكبرى التي خُصّصت للمنشآت النفطية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لكلا البلدين. وانّ ما حصل أخيراً ادّى الى تجميد العمل في الجانبين، وانعكس على مسار الوعود بالغاز المصري والكهرباء الاردنية ايضاً، وهو ما كان مدار بحث مع وزير الطاقة وليد فياض. عدا عن سقوط السيناريوهات الخاصة بتوفيرمزيد من الطاقة الذي تحتاجه دول مختلفة تعويضاً عن النقص الناجم من العقوبات على المنتجات الروسية والايرانية، بهدف تقليص صادراتها الى الأسواق العالمية.
وبناءً على ما تقدّم، اكّد المصدر، انّ ما اشتهاه هوكشتاين ليس أمراً عادياً وسهلاً إن بقيت المواقف على حدّتها. فهو غادر لبنان مقتنعاً بأنّ امامه عملاً كبيراً مطلوباً، وهو يستند الى ما سمعه من استعدادات عبّر عنها رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي بات المحاور اللبناني الوحيد، بعدما تعهّد بإعداد «اتفاق الإطار» الجديد قياساً على خبراته السابقة التي مهّدت للاتفاق البحري الذي يمكن إحياؤه في موازاة السعي الى إنهاء ملف الحدود البرية، على ان تأتي لاحقاً المحطات الأخرى المتصلة بالاستحقاق الرئاسي. فهو مجمّد الى حين التثبت من انّ المفاوضات قد وُضعت على سكة الحلول وصولاً الى اللحظة التي يشعر فيها الجميع بتوفير ما يحتاجه هذا الاستحقاق الدستوري من مقومات لإنجازه في أفضل الظروف الممكنة. وكلها محطات تلي وقفاً للنار في غزة توقّعه هوكشتاين عن طريق واشنطن في خلال أيام قليلة تلي مغادرته بيروت، وهو ما ترجمته امس ادارته بتقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يؤيّد وقف إطلاق النار لمدة 6 أسابيع في غزة، ويدعو إلى إطلاق جميع الأسرى المحتجزين، بعد موافقة جميع الأطراف.