تطمح فرنسا الى لعب دَور متقدّم في الشرق الأوسط عبر محاولتها التأثير إيجاباً في حلّ الأزمات وإنهاء الحروب المندلعة في سوريا والعراق، والتصدّي لـ»داعش» وأخواتها، وإيجاد توازن بين العرب وإيران بعد توقيع الإتفاق النووي الإيراني.
الملفاتُ الشائكة التي تسعى فرنسا الى حلّها تصطدم باحتكار أميركيّ ونزاع سعودي- إيراني، فلم تنجح باريس حتّى الساعة في الخرق والتأثير، خصوصاً بعد دخول روسيا مباشرة على خطّ الأزمة السوريّة وتحذير واشنطن من أبعاد هذا التدخّل الخطيرة، ما يعيد الى الذاكرة مرحلة الحرب الباردة بين الجبارين الاميركي والسوفياتي، على رغم أنّ قواعد الإشتباك الدولي وإدارة العالم تغيّرت بعد عام 1990 وإنهيار جدار برلين وسقوط الإتحاد السوفياتي، وتحوّل النظام العالمي الى أحادي بقيادة الولايات المتحدة الاميركيّة.
لم تيأس فرنسا من المحاولة، فالدولة التي تملك حقّ النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، لا تزال تتمتّع بتأثير عالمي، ولو محدود خصوصاً في إفريقيا القارة السمراء، أمّا الباب الذي إختارت منه فرنسا التسلّل الى نادي السياسة العالميّة، فهو لبنان الذي يشكّل الحليف الدائم لها على رغم تبدّل شكل العلاقة، إلّا أنها حافظت على خيط الودّ الدائم ونسجت أفضل العلاقات الثنائيّة.
شكّلت قضية إضطهاد الاقليات في الشرق الأوسط، خصوصاً المسيحيين حافزاً للدخول الفرنسي، فنظّمت باريس مؤتمراً دولياً ورعته تحت عنوان «حماية الأقليات من العنف الإتني والديني في الشرق الأوسط»، وقد حظيَ لبنان فيه بحصّة الأسد ولا سيما خلال كلمة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند.
دخلت فرنسا سابقاً، وإخترقت السلطنة العثمانيّة، من خلال المسألة الشرقية وحماية الأقليات، وإختارت الموارنة كطائفة تدعمها وتحميها، ومع تبدّل المناخات والموازين الدولية، ها هي باريس تعود الى التاريخ والجذور من باب نجدة الأقليات، وتسعى لترميم ما تباعد مع الموارنة كمدخل لإعادة الحرارة القديمة الى عهدها السابق، وفي هذا الإطار أتت مشارَكة ممثل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي راعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس مطر في المؤتمر حيث سمع كلاماً إيجابياً جدّاً من هولاند.
مطر الذي عاد أمس الى بيروت بعد إنتهاء أعمال المؤتمر، يؤكد لـ»الجمهورية» أنّ «هولاند أحاط الوفد اللبناني باهتمام خاص، وكان أوّل مَن إلتقاه حيث قال له إننا نتواصل باستمرار مع غبطة البطريرك ونحن على تنسيق دائم معه، وزيارتي الى لبنان هي للتضامن مع شعبه الصديق والحليف».
ويلاحظ مطر في المقابل، «عودة فرنسية الى الجذور من خلال محاولة إحياء العلاقة التاريخيّة مع الكنيسة المارونية واللبنانيين جميعاً، والتي تعود الى عهد الملك لويس التاسع، وليست إبنة البارحة»، موضحاً أنّ «فرنسا مصمّمة على إعادة العلاقة الى سابق عهدها، خصوصاً أنّ الرئيس هولاند يعرف التاريخ جيداً، وهو قالها إمام الجميع، «إنّ علاقتنا مع الموارنة جزءٌ من تراثنا، وفتحت العلاقة مع جميع اللبنانيين، من ثمّ مع العرب»، من هنا، فإنّ زيارته لبنان، تأتي في سياق دعم بلدنا وتأكيد العلاقات التاريخية معنا».
ويلفت مطر الى أنّ «الموارنة لا يطلبون شيئاً من هولاند وفرنسا لأنفسهم، بل يوظّفون هذه العلاقة لمصلحة لبنان، وهم مطمئنّون الى الإندفاعة الفرنسيّة الجديدة».
ستترّك زيارة هولاند الى لبنان أثراً معنويّاً بين اللبنانيين، خصوصاً أنّ تحضيراتها تسير على قدم وساق من خلال السفير إيمانويل بون، وهذه الزيارة هي الأرفع والاعلى مستوى لمسؤول بهذا الحجم بعد الفراغ الرئاسي، ومن المقرّر أن يلتقي هولاند الزعماءَ السياسيين اللبنانيين، على أن يتوّج لقاءاته في بكركي مع البطريرك الماروني، حيث ستُعقَد خلوة مطوّلة تبحث في كلّ قضايا البلاد وعلى رأسها إنتخاب رئيس الجمهورية، مع العلم أنّ زيارة بكركي تُعتبر تقليداً يحترمه جميع الرؤساء الفرنسيين الذين يزورون لبنان، والأمل أن تشكّل هذه الزيارة دفعاً لإنتخاب رئيس للجمهورية.