لم يكن احد من اللبنانيين ينتظر تصاعد «الدخان الابيض» من قصر الاليزيه عقب اللقاء بين الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والنائب وليد جنبلاط، حول اي من الملفات اللبنانية او الاقليمية، فالرجلين ورغم فارق المسؤوليات، لا يملكان ترف اتخاذ القرارت في تلك القضايا، فالحل والربط في مكان آخر، «البيك» يدرك ذلك، وهولاند لا يبالغ في تقدير قدرة بلاده على التأثير، ولذلك تحول «اللقاء» الى مجرد تبادل للافكار غير المنتجة، بين «صديقين« يعانيان من «ظلم« «ذوي القربي»، اما الخلاصة فكانت المزيد من التوتر والقلق لدى جنبلاط الذي غادر القصر الرئاسي اكثر تشاؤما. فما هي اسباب ذلك؟
اوساط ديبلوماسية في بيروت تشير الى ان اللقاء «الودي» بين الرئيس الفرنسي والنائب جنبلاط لم يغير قتامة المشهد لدى الزائر اللبناني، فخلال 45 دقيقة من المحادثات لم يخرج جنبلاط باي «بارقة امل» يمكن ان تخفف عنه حالة القلق المتصاعد ازاء التطورات السياسية والامنية غير المتسقة مع ما ذهبت اليه «سفنه» قبل نحو اربع سنوات من الرهانات الخاطئة على سقوط النظام السوري، فلا تأكيدات الرئيس الفرنسي بأنه لن يستعيد أي حوار مع بشار الأسد، ولا تطميناته بان الاستخبارات الفرنسية، لا، ولن تتعاون مع النظام السوري، حملت في طياتها اي تطمينات يمكن التعويل عليها لرسم المشهد الاستراتيجي في المنطقة، فالاميركيون غير مهتمين بالاستماع الى اصوات حلفائهم الاوروبيين، ولا يقيمون وزنا «للاصدقاء» العرب، واذا كان هولاند اظهر تطابقا في الموقف مع جنبلاط ازاء تصريحات وزير الخارجية الاميركي جون كيري ازاء التفاوض مع الرئيس الاسد، ووصفها «بالمحرجة» لفرنسا والادارة الاميركية! فان اعراب الرئيس الفرنسي عن مخاوفه وقلقه إزاء سياسة إيران في المنطقة، زاد من حدة «التوتر» عن «بيك» المختارة الذي سمع في الاليزيه الكثير من الشكوى والعتب على الحلفاء، والكثير من الامتعاض و«الغضب» من التمدد الايراني، دون الحصول على اجوبة شافية حول سبل المواجهة، وشعر بنوع من الاستسلام والتسليم بالقدر الذي تفرضه السياسة الاميركية، وبالوقائع التي تفرضها الاستراتيجية الايرانية.
واذا كانت باريس تملك القدرة على «المشاغبة» دون ضمانات بان تكون قادرة في نهاية المطاف على نسف التفاهم النووي الغربي مع ايران، في ظل اصرار اميركي لا يفهمه الفرنسيون على اتمام «الصفقة»، فان المقلق بالنسبة الى جنبلاط حالة انعدام الخيارات والقدرة لمواجهة الدور الايراني في المنطقة، وبحسب تلك الاوساط فان ما سمعه «البيك» زاد قتامة المشهد لديه، فهناك سمع شكوى من هولاند حيال الاستراتيجية الاميركية المستعصية على الفهم بحسب الفرنسيين، وهذا الامر لا يرتبط فقط بالادارة الحالية، ففي العام 2002 قام الجمهوريون ابان رئاسة جورج بوش بغزو افغانستان ودمرت طالبان عدو إيران الأول في تلك المنطقة، وفي العام 2003 اجتاحت العراق رغم ان الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كان يمكن احتواؤه لو بذل مجهود جدي كي يبقى سدا منيعا بوجه الايرانيين، لكن الاميركيين اختاروا مجددا القتال بدل الايرانيين والفوز في معركة تم اهداء نتائجها الى الجنرال قاسم سليماني.
واليوم فالمشهد «السوريالي» يتكرر في الحرب على «داعش» والتنظيمات التكفيرية في سوريا والعراق، ايران فرضت نفسها قوة اساسية في مكافحة الارهاب لان باقي الاطراف لا تريد القتال، فالاكراد عندما بدأت «غزوة» «داعش» لم يجدوا مساعدة جدية الا من الايرانيين، وغاب العرب مرة جديدة عن المشهد، اما الغرب فلا يريد التورط في حرب برية وهو غير مستعد لدفع اي ثمن، وحتى الأكراد لا يريدون القتال بعيدا عن مناطقهم، اما «جبهة النصرة» فلا تريد الدخول في حرب مع «داعش» لانها تعرف ان معركة كهذه تعني بداية النهاية لنفوذها، ولذلك لم تنجح محاولات «تلميع» صورتها لسلخها عن «القاعدة»، اما المعارضة «المعتدلة»، فعدد أفرادها أقل من أن يترك أثرا في الميدان، بعد «الاجهاز» على «حركة حزم» وقوات جمال معروف، في المقابل يقاتل حلفاء ايران في سوريا والعراق دون هوادة. اما القلق الجدي لدى جنبلاط والفرنسون معا فهو من تطور العلاقات الايرانية الاميركية اذا ما حصل التفاهم النووي، فحتى الان لا يبدو ان ثمة تعاون ميداني منسق بين الاميركيين والايرانيين، يستفيد تنظيم «داعش» من هذا الامر مرحليا، لكنه لن يتمكن من الصمود أمام القوتين معا، اذا ما حصل تعاون وثيق في المستقبل، فهذا التحول سيعني حكما خسارة التنظيمات الارهابية للمعركة لكن الرابح الكبير سيكون دون ادنى شك ايران. فمن يقاتل على الارض يربح المعركة وليس من يقصف من السماء.
اما مصدر القلق الاول لدى جنبلاط فيبقى الاحجية الكبيرة حيال الموقف الاميركي نظام الرئيس بشار الاسد، فالادارة الفرنسية لا تملك اجابات واضحة عن النوايا الاميركية المضمرة في الانفتاح على الاسد، وحتى الان لا تعرف السبب الحقيقي الذي دفع بالاميركيين لرفض تقديم مساعدة جادة وفاعلة لقوى «المعارضة المعتدلة» رغم كل المطالبات الفرنسية الملحة قبل نحو عامين، لكن تم تفويت الفرصة الان ولم تعد المعطيات الميدانية تسمح بتحقيق اي انجازات بعد اضمحلال قوة المعارضين «المعتدلين»، وهيمنة القوى المتطرفة على الميدان، في مقابل نجاح النظام وحلفاؤه في تعزيز قدراتهم على الارض وتقديم انفسم انهم طلائع القوات المقاتلة لمواجهة الارهاب..
وبحسب تلك الاوساط، فان الاكثر اثارة كان في عرض الفرنسيين لموقفهم من الحلفاء العرب، فجنبلاط العارف بالعلاقة «المصلحية» القائمة بين دول الخليج وباريس، في ظل الرغبة الفرنسية الجامحة للحصول صفقات سلاح اضافية تضاف الى صفقة المليارات الثلاث الخاصة بتسليح الجيش اللبناني، سمع كلاما يتلخص بسؤال حول دور الدول العربية وعجزها عن ملء الفراغ الإقليمي ووضع حد للدور والنفوذ الايراني؟ «فبدل التوحد في هذه المواجهة انخرطت الانظمة العربية في حرب جانبية داخل البيت الخليجي ومع تركيا حول دور «الاخوان المسلمين» في المنطقة، وتبدو محاولة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز لاستدراك الوضع جاءت متأخرة، فالاستثمار «بالاخوان» لم يعد متاحا على الاطلاق، فهذا الفصيل المصنف ضمن «الاعتدال السني» كان الاكثر قدرة على مواجهة المد الايراني في المنطقة، وكان يمكن التعويل عليه كواجهة مطلوبة لضرب التطرف السني، ولكن التنافس على قيادة «السنة» ذهب ضحيته هؤلاء، ولم يعد في المشهد الان سوى هؤلاء المتطرفون، وبات المشهد شديد الغرابة، فالعرب منخرطون الى جانب ايران في الحرب ضد «التكفيريين»دون ان تكون لهم بدائل على الارض، وهم يخشون التراجع عن خوض هذه المعركة في ظل اتهامات اميركية متواصلة لهم بالتخاذل وعدم تقديم الدعم اللازم في هذه المواجهة، وفي الخلاصة هم يخوضون مواجهة دون اثمان سياسية والمستفيد الوحيد في نهاية المطاف ستكون ايران لان العرب وحلفاء واشنطن في المنطقة خارج التوازنات الاقليمية ولم يقدموا لواشنطن ما يمكن ان يغريها مقابل ما تقدمه ايران من اغراءات!.
في الخلاصة لم يكن جنبلاط يبحث عن دور من «البوابة» الفرنسية، لكنه كان يطمح بالحصول على اجوبة تريحه فلم يوفق بذلك، وللمفارقة تزامنت زيارته الباريسية مع صدور نتائج استطلاع للراي في ايران احتل فيها قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، المرتبة الأولى، تلاه وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي يقود المفاوضات النووية مع الدول الغربية، وهذه «رسالة» بالغة الدلالة تفيد بأن ايران تقاتل اولا، وتفاوض ثانيا، لحماية مصالحها ومصالح حلفائها، فيما يبيع الغرب حلفاءه «ثرثرة» فارغة من اي مضمون.