زيارة تاريخية يقوم بها البطريرك بشارة بطرس الراعي إلى الرياض؛ بدعوة من الملك سلمان، وذلك في ظل ظروفٍ خطيرة يعيشها لبنان، وتطورات كبرى تمس جوهر مؤسسات الدولة. استقالة الحريري المدوّية رفعت الغطاء عن الترهل السياسي. يشكّل الحريري مع فريقه، التيار المدني والليبرالي والحداثي داخل المجتمع اللبناني، بينما تتنازع بقية القوى مروحة المصالح والمنافع، أو شعارات القضيّة والاشتراكية، أو الراديكالية المتطرفة، يمكن اعتبار الحريري وجعجع اثنين من السياسيين القلائل الذين يدافعون باقتناع عن القيم المدنية، ويحرسون أسس الجمهورية، ويدافعون عن فحوى الدولة بوصفها الكيان الضامن لحريات الآخرين، وبخاصة أن قدر الدولة أن تكون بدستور توافقي دائم، وذلك بغية إرضاء جميع الطوائف وشتى الانتماءات والبلدات. تأتي زيارة البطريرك في ظل غرور إيراني بأن لبنان بات تحت سيطرتهم، وأن «حزب الله» بوصفه الآخذ نصيب الأسد من السياسة والجغرافيا والسلاح هو الحكومة الفعلية للبنان، مهما كان من نفوذٍ سياسي لدى الآخرين.
ثمة توتر ملحوظ بين السعودية ولبنان، وقد يكون لذلك عواقبه الاقتصادية والاجتماعية ملحقة بالآثار السياسية، وذلك على الرغم من محاولاتٍ حثيثة ومبادراتٍ جدية قامت بها السعودية من أجل استعادة لبنان إلى داخل البيت العربي بوصفه عضواً مؤسساً لجامعة الدول العربية، فلا يمكن استيعاب تحوله إلى مسرح عمليات إيرانية عسكرية وسياسية، ووافقت على تسويات ليست هيّنة كالتي قام الراحل الملك عبد الله بمبادرة «سين سين»، أو التي قام بها سعد الحريري مع التيار الوطني الحر؛ مما أثمر عن انتخاب رئيسٍ للجمهورية، ولكن مع ضعف الدولة وهشاشتها يحضر البديل تلقائياً وغالباً ما يكون بديل الدولة جمع العصابات أو الشبكات المافيوية أو الأحزاب الراديكالية المتطرفة، ولم يستطع الساسة اللبنانيون فهم الرغبة السعودية في أن يعود لبنان إلى المؤسسة العربية، وذلك لسببين: إما لانتماء حقيقي لمحور إيران، وبالتالي الإيمان بأن هذا المحور «المقاوم» هو المنتصر – كما يزعمون – في العراق وسوريا ولبنان، وعليه فإن الرهان عليه أكثر ضمانة وهذه صيغة نفعية، والسبب الآخر: الخوف من حزب السلاح في لبنان أن يستهدف أي سياسي ينضوي ضمن المشروع العربي الذي تمثله في الطليعة السعودية، وعليه فإن الثمن الذي يترتب على الصدع بالرأي سيكون باهظاً، من هنا يأتي شلل الدولة، إلا إن جاء من له مكانته ورأيه وصوته ليحسم السجال والجدال.
منذ نصف قرن والسعودية تحمي تعددية الطوائف اللبنانية، ورغم أن هذه الزيارة للبطريرك هي الأولى من نوعها، لكن هذا لا ينسينا اللقاءات الدبلوماسية المتعددة بين بكركي والرياض من خلال سفراء ووزراء ودبلوماسيين ومبعوثين من الملك، لكن الذي يلفت هذه المرة أن الزيارة جاءت بدعوة ملكية وبشكلها التقني، وإلا فإن الشراكة والتفاهم والتداول بين الصرح البطريركي والرياض له تاريخه، ونذكر بالتعاون التاريخي بين السعودية والبطريرك السابق مار نصر الله بطرس صفير، الذي كان له دور تاريخي بحماية لبنان من التدخلات الأجنبية، سواء السورية أو الإيرانية، وكان من صقور ثورة الأرز ومن رموز الدولة اللبنانية المدنية.
يُنتظر من البطريرك الراعي أن يساعد اللبنانيين على الانتصار بوجه الظلم والطغيان، وصوته المسموع لدى المجتمع والسياسيين يمكن أن يسهم عن حوار جدي بشأن التدخلات الإيرانية، ومصير سلاح «حزب الله»، وأمد التدخل من قبل الحزب في الحرب السورية، ورعايته الإرهاب في اليمن، وانتهاك سيادة الدول، مهمة صعبة على البطريرك؛ وذلك لحيثيات يمكن ذكر اثنين منها، أولها ميل سياسي: معروف أن البطريرك لم يدخل في نقاشٍ صريح مع «حزب الله»، لكن المتابع لتصريحاته الأخيرة يلمس بعض التوازن القابل للتطور، بما يتعلق بالمشكلات المستعصية التي يعاني منها لبنان.
لطالما شكل المسيحيون العرب شراكة حقيقية مع المسلمين، وأسهموا في نهضة العلوم والفلسفات والأفكار واللغة، هذا قبل أن تطفو على السطح أحاديث التطرف وسكاكين الدم، يروي الحسن بن طلال في كتابه: «المسيحية في العالم العربي»: «إنه وعندما حدث الانشقاق بين كنيستي القسطنطينية وروما، كان المسيحيون في الشام والعراق واقعين تحت الحكم الإسلامي قرابة أربعة قرون، وبقي من بين هؤلاء المسيحيين الملكانيّون وحدهم في مصر والشام موالين لبيزنطة، وعلى علاقة موصولة بها سياسياً وكنسياً، كما كانوا من قبل، أما أتباع مذهب الطبيعة الواحدة من الأقباط واليعاقبة وكذلك النساطرة في العراق، فكانت بيزنطة بالنسبة إليهم مصدر اضطهاد لا أكثر؛ ولذلك رأوا في الحكم الإسلامي خلاصاً لهم من جور بيزنطة، فأبدوا استعداداً للتعاون مع الحكم الإسلامي منذ البداية، وهناك من يشير إلى أن الموارنة كانوا من جملة المسيحيين الذين رحبوا بحلول الحكم الإسلامي محل الحكم البيزنطي بالشام». (نقله عنه عز الدين عناية في كتابه نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم».
ثمة خلافات كبرى بين السعودية ولبنان، يمكن حلها مع عقلاء القوم، وذلك من خلال الحوار والنقاش، واللغة العمليّة على الأرض لفرض واقع الدولة؛ مما يسهل من التعامل والتعاون، ومن دون ذلك فإن التدهور بالعلاقات قد يصل إلى مدى يبعث على الأسف والأسى:
وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَة
إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِممُ
كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ
وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ