منطقي تماماً الافتراض بأن كل تطوّر إيجابي لصالح العرب هو سلبي لإيران، والعكس صحيح. والزيارة التاريخية للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا، والنتائج – البدايات التي أسفرت عنها، لا تخرج عن ذلك التوصيف، بل تؤكده.
تُظهر المملكة براغماتية تتناسب مع متغيرات عالم اليوم. وتضع الاصطفافات المسبقة خلفها. وتتصرف وفق ما تراه مناسباً لمصالحها وسياساتها وتوجهاتها. وهذه في جملتها تأخذ واقع العرب والمسلمين وتضعه في الصدارة. وتبحث عن أفضل السبل الكفيلة بردّ الاستهداف الذي يتعرضون له بشراسة تفوق (من دون مبالغة) أسوأ ما شهدته مراحل النزاع العربي – الإسرائيلي.
وهو استهداف باشرته إيران من دون قفازات. واستخدمت فيه جماعاتها المذهبية. واستثمرت في موازاتها بالجماعات الإرهابية الأبرز، من «القاعدة» إلى «داعش».. ثم طوّعت نفسها، ثورتها وشعاراتها وقيمها وتعبوياتها لتتلاءم مع مستجدات «الانفتاح» على إدارة باراك أوباما التي «ارتأت» من جهتها أن شعار «الاتفاق النووي» كافٍ لتبرير أشياء كثيرة منها تحميل الإسلام الأكثري مسؤولية الظاهرة الإرهابية! ومنها دفع ثمن ترويض الشغف الإيراني بتصنيع أسلحة الدمار الشامل، من كيس ذلك الإسلام نفسه وعلى حساب دُوله وكياناته وشعوبه واستقراره وثرواته!
ثم أمكن إيران تطوير التلاقي المبدئي مع الروس على دعم سلطة الأسد، إلى شيء من التحالف، من دون أن تشعر بأي حرج (أو خجل) من حقيقة العلاقات الميدانية وغير الميدانية «الممتازة والمميّزة» بين هؤلاء والإسرائيليين! ومن دون أن تتردّد في تقاسم كعكة النفوذ في سوريا معهم. طالما أنّ البديل الوحيد هو خسارة كل تلك الكعكة دفعة واحدة. وتبدّد كل الاستثمارات التي وضعتها فيها على مدى العقود الماضية.. وسقوط مشروع الهلال المذهبي بالضربة القاضية!
على أن أخطر ما اعتمدته إيران لبناء سياساتها هو افتراضها، أن محاصرة الجانب العربي والإسلامي الآخر، بالعلاقات مع الروس والأميركيين، وبالاستثمار في المعطى الإرهابي والعمل الميليشيوي، تكتمل عملياً بأداء ذلك الجانب الآخر! المحكوم بالجمود والهدوء! ورد الفعل وليس الفعل! وإيثار التبريد على التوتير! وحقن دماء المسلمين ومنع الفتنة من الاشتعال.. أي أن إيران راهنت على الاستثمار السلبي في أخلاق أخصامها وأعدائها! وعلى التزامهم الأطر الشرعية والدستورية والسلمية في مجمل سياساتهم!
لم تغب تلك الأخلاق عن أداء الجانب العربي والإسلامي. ولم تتغيّر الالتزامات بنبذ الفتنة وبالشرعيات والدستوريات والسلميات.. بل جرى دمجها (إذا صحّ التعبير) مع أداء مختلف كانت «عاصفة الحزم» في اليمن أبرز دلالاته! ثم تفعيل مواجهة الإرهاب، قبل وبعد قمم الرياض الأميركية – السعودية والأميركية – العربية والأميركية – الإسلامية، بكل ما يعنيه ذلك وطنياً وخليجياً.. ثم إعادة النظر في المقاربات المتبعة إزاء الوضع العراقي والنكبة السورية والحالة اللبنانية.. ومعها توسيع دوائر العلاقات الدولية في كل اتجاه مفيد، والخروج بها من أطر الحصرية (مع الغرب) التي سرت على مدى عقود سابقة!
ما فعلته وتفعله القيادة السعودية بذكاء وحرِفيّة (وأخلاق) هو تفكيك الأدوات الحصارية التي استندت إليها إيران طويلاً! وأوغلت في استثمارها من دون أن تأخذ في الاعتبار أي شيء غير مصالحها القومية! ورؤاها الخاصة بأحوال الدنيا والزمان! ومشروعها الإحيائي، الامبراطوري في أقصاه، والمحوري أو القطبي في أدناه!
زيارة موسكو التاريخية، تُكمل إعادة واشنطن النظر في سياساتها إزاء المنطقة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.. وتكسر التشاوف الإيراني بالقدرة على الإمساك بـ«مجد» العلاقات الدولية من طرفيه! عدا عن أنّها أكدت فعلياً (وتسليحياً!) مدى الثقة الدولية عموماً والروسية راهناً بالقيادة السعودية وتوجهاتها… وليس أدلّ على ذلك من صفقة «صواريخ – أس 400»، في حين أن أقصى ما حصلت عليه طهران بشق النفس، كان «أس – 300»!
مجرّد مثال واحد لكن بدلالات كثيرة!