Site icon IMLebanon

Vive la république

أكتب هذه الافتتاحية، وأنا تحت وطأة الوعي المنذهل مما يحدث هنا وفي العالم. يهمّني كمثقف لبناني عربي، مدني علماني ديموقراطي، أن ألفت القرّاء المتنوّرين، وخصوصاً المثقفين العرب المسلمين، إلى أن كلّ تردّدٍ ملتبس حيال ما يجب أن يقال في شأن العنف الذي يُرتَكب باسم الدين الإسلامي، في الشرق وفي الغرب، في الواقع وفي الافتراض، يجعل الشخص المتردّد، كما الجهة المتردّدة، تحت مجهر المحاسبة التاريخية، النقدية والأخلاقية.

لبنان العزيز أولاً وأخيراً

فلترتكب الطوائف والمذاهب اللبنانية ما تواصل ارتكابه هنا، في هذه الأرض المتألمة. أعطوها ما تريد. كرِّموها. عزِّزوها. واحقنوها بالغرائز ليكتمل الوحش الذي ينمو جنينه الأعمى في أحشائها.

في المقابل، شيءٌ واحدٌ فليُطلَب من هذه الطوائف والمذاهب: أن تترك لبنان العزيز وشأنه. أن تحيِّد الكيان والجمهورية والمصير، ولتتسلَّ بنهش العظام المرمية لها على القارعة.

أيها الزبانية والقوّاد، خذوا الرئاسات والمناصب والكنوز والأموال كلّها. لكنْ، اتركوا لبنان الفكرة، لمَن يستحقّ لبنان والفكرة!

لبنان العزيز، هو أولاً وأخيراً وبين بين، فكرةٌ، وهو أرضٌ واقعيةٌ ومطلقة للحرية، وفضاءٌ لانهائيٌّ للخلق والاختلاف والتنوّع والتلاقي. خذوا ما تشاؤون. لكن اتركوا لبنان العزيز هذا، وشأنه!

باريس باعتبارها ضرورة مطلقة

أحبّكِ في الكبرياء وفي الأنوثة. في الهرب وفي التمنّع. في النوم وفي اليقظة. في السهر وفي الأحلام التي تلي السهر. في العودة المتأخرة إلى الفندق وفي هديل الشعر والموسيقى. في التيه وفي الاطمئنان. في الوجع وفي لذة الوجع. في الكتب وفي الصمت الذي يلي الكتب. في المرايا وفي الواجهات. في الجلوس وفي الغيبوبة. في الجسد المترف وفي الماء الذي ينعم به الجسد. في الحياة غير القابلة للاستكانة وفي الولادات المستمرة. في الدوار وفي المنطق، كما في نقائضهما والتآلفات. في مستقبل النهر وفي ماضيه، كما في الستائر المغلقة. في الأرصفة وفي الأشجار التي تؤنس الأرصفة وتستفزّها. في الحدائق وفي المتاحف. في النبيذ وفي الثقافة والشعر. في الكاتدرائيات وفي المقاهي. في المتأنقين وفي أهل الشرود. في وجوه السكارى وفي وجوه النساء. في المكتبات وفي المطاعم. في برج إيفل وفي برج مونبارناس. في ساحات الفنانين وفي ساحة السوربون. في جوقات العازفين الليليين وفي البهلوان الذي يرقّص ساعة الزمن. في الوقت الذي يعبر خارج الوقت وفي رنين البرهة الفائقة. في حياتي التي تعرّفتُ إليها هناك وفي حياتي التي لم أتعرّف إليها بعد. في الرذاذ الخريفي الملتهب وفي ذهب العمر. في النشوة الروحية وفي التصعيد الجسدي. في جماليات العمران وفي نسائم الغيم العليل. في الأناقة وفي الزهو. في الابتسامات وفي الإشارات الخفية. في اللامبالاة وفي الجدوى. في العبث وفي الجدية. في الكسل وفي الإيقاع الذي يخترع للكسل موسيقاه الخالدة.

وأحبّكِ في أحوالكِ كلّها. في الذهول الذي يسبق السخط والغضب، كما في المرثاة التي تحتاج إلى حبرٍ لم يتسنّ للمحابر أن تخترعه أو أن تجترح معناه وأسلوبه.

لا أستطيع أن أراكِ مبعثرة أو مفكّكة. وكم أخجل أن أنظر إليكِ في الهلع أو في الألم والخراب.

أخطاؤنا وذنوبنا حيالكِ لا توصف. كم يجب أن نحبّكِ لنكفّر عن الأخطاء والذنوب!

أنتِ ضرورةٌ مطلقة للحياة والحبّ والجمال وللحرية. فلنساهم في حماية هذه الضرورة!

“التجلّي الإلهي

“الإله” يتجلّى. ليس هو الإله الرحمن الرحيم، ربّ الحبّ والأخوّة والتسامح والتعدد. بل الإله الوحش الذي اخترعه فرانكشتاين. وها هو فرانكشتاين يحصد ما زرعه. وما دمنا نحكي الأمور بتبسيطيتها الكلية، فليس هناك أيّ عجب في ما يجري. الحداثة تلتهم ذاتها. الغرب يلتهم ذاته. الأنظمة الديكتاتورية الشرقية تلتهم ذاتها. والدين الإسلامي يلتهم ذاته أيضاً وخصوصاً. لقد خرج النظام العالمي على الموازنات التي تحكم معاييره، وفقد الفعل البشري نظام جاذبيته، وضيّع مفاتيح الأزرار التي تسيّر المنطق.

فرانكشتاين الذي هو عقل هذا العالم، أراد أن يتجاوز عبقريته، فاخترع نموذجاً يتحدّاه ويتخطّاه. هذا النموذج هو الإله – الوحش المزروع فينا، وحيث نعيش ونتحرّك ونعمل ونخترع. مَن يستطيع بعد الآن أن يعيد الإله الفرانكشتايني إلى نصابه؟ مَن يستطيع بعد الآن أن يأمن ذاته، والعالم، من الوحش الذي في ذاته، وفي العالم؟

ما حصل في برج البراجنة، وما يحصل في لبنان مطلقاً، هو نفسه في باريس، كما في سوريا والعراق واليمن، وفلسطين، وإن تعددت الأيدي والأقنعة والأفعال. من طهران إلى الرياض، ومن دمشق إلى بغداد وصنعاء وبيروت، ومن موسكو إلى واشنطن وباريس، ترون العالم الفرانكشتايني وهو رهين الورطة الكبرى. بعد قليل، سيجد “الإله” المتجلّي نفسه مدعواً إلى اختراع التعبيرات الجنونية غير المسبوقة عن ذاته، في أرجاء المعمورة كلها، مروراً بكل الأمكنة الواقعية والافتراضية، وبالناس الواقعيين والافتراضيين جميعهم.

الإنذار واضح، والنتيجة واضحة: لن ينجو أحدٌ، ولا مكان، من تعبيرات هذا “التجلي الإلهي”!

ثمة نداءٌ ضروري إلى المثقف الغربي عموماً، والفرنسي خصوصاً: إياك والوقوع في فخّ الإسلاموفوبيا. فهذا ما يراد لكَ أن تنزلقَ إليه.

نحن اللبنانيين والعرب، في حاجةٍ إليك، مثقفاً مدنياً علمانياً وديموقراطياً، على الرغم من كل الآلام والأثمان الهائلة، المسدّدة، وتلك التي يُخشى تسديدها في المقبل من الأيام!

الإسلام الكريم في خطر

الإسلام الكريم في خطر. الحياة نفسها في خطر. هذه المسألة الوجودية لم تعد تحتاج إلى تأجيل، ولا إلى نقاش بيزنطي عقيم. ما يقع تحت مسؤولية الأمم الشرقية والغربية، الدينية والديكتاتورية، المدنية العلمانية والديموقراطية، فلتتحمّل مسؤوليته العارية هذه الأمم كلّها. ما يقع تحت مسؤولية المسلمين، آن الأوان ليتحمّلوا مسؤوليته، التي تتطلب منهم وعياً نقدياً، استثنائياً وتاريخياً، شاقاً ومريراً وصعباً وجذرياً للغاية، يتخطى اللحظة الراهنة، ويستشرف المصير الأسود الذي ستكون عليه حال الدين والدنيا، إذا لم يستوعبوا أوزار هذه المسؤولية، ويعملوا بموجبها.

خطآن جسيمان لم يعد ممكناً التغاضي عنهما: خطأ الأمم وخطأ المرجعيات الدينية الإسلامية.

المسخ بات يحتل العالم بمفاعيله الكارثية، بعدما خرج خروجاً مأسوياً على سيطرة خالقه الدموي. يجب إنقاذ الإسلام، كفكرة خلاّقة، من هذا المسخ، قبل أن يتمادى التمادي كلّه، فيغرق الكون في ما لا رجعة عنه، ولا خلاص منه.

قبل أربعة عشر عاماً من الآن، في 11 أيلول 2001، حصل في نيويورك ما تكرّر حصوله في باريس قبل أسبوع، وما يحصل في المشرق العربي منذ 2003 إلى اليوم. لقد تغيّرت الأسماء والأمكنة والوقائع، لكن اليد واحدة، والنتيجة واحدة: المسخ هو المسخ، والخراب هو الخراب.

لم تنجح الأمم في مواجهة المسخ (أو هي لم تُرِد)، ولا المرجعيات الإسلامية تجرأت على تجرّع الكأس المرّة بإعلان ما يجب إعلانه على مستوى النص الديني، وعلى مستوى الآيات التي تدعو إلى العنف، وأيضاً في شأن حقيقة هذا المسخ الذي ليس من الدين الإسلامي في شيء.

مرةً ثانية: الأمم مضطرة اضطراراً تاريخياً لا مفرّ منه، لإعادة النظر في المنطق الزائف والماكر الذي يحكم حساباتها الإقليمية والدولية، وتصوّراتها وممارساتها وأساليبها. لم يعد ممكناً التلاعب بالمصير الكوني، بالطريقة التي تتلاعب بها هذه الأمم الغاشمة. ما يجري في سوريا والعراق واليمن، في لبنان كما في فلسطين، يجب أن يكون دليلاً فاقعاً على هول هذا التلاعب.

مرةً ثانيةً أيضاً: تاريخية النص الديني هي اليوم على المحكّ، ولا مفرّ من الإفتاء في هذا الشأن.

كلّ مماطلة في هذين الشأنين، ستعمّق الكارثة الكونية، وتعمّمها، وتجعل العالم برمّته في فخاخ الفوضى الدموية المطلقة.