ثمة سياقات تاريخية واستراتيجية لما يجري في أوكرانيا. فالتدخل العسكري الروسي الذي جرّده بوتين على أوكرانيا ليس منزوع السياقات والخلفيات والأبعاد. وقصته بدأت من عدم التزام الولايات المتحدة بالاتفاقيات والبروتوكولات والمذكرات التي أبرمت، وبينها «مذكرة بودابست» الخاصة بالضمانات الأمنية عام 1994. وفي هذه المذكرة السياسية اعترفت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا أن «بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا باتوا أطرافاً ممثلين في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.. وأن هذه الدول تخلّت عن ترساناتها النووية وسلمتها لروسيا التي اعترفت بالمقابل بسلامة وسيادة أوكرانيا المحايدة، غير المعادية وغير العسكرية».
ad
لكن الولايات المتحدة لم تقرّ مطلقاً أن مذكرة بودابست مُلزمة قانونياً أو ترقى لفئة المعاهدات المُبرمة. فاستراتيجية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة واوروبا كانت ولم تزل تقضي بقضم دول الاتحاد السوفياتي السابق وضمها الى حلف الناتو الذي لم يعد من مبرّر استراتيجي لوجوده بعد تحلّل «حلف وارسو» وتفككه وانفراط عقده.
لكن العقيدة الأميركية القائمة على مزيد من الهيمنة والتوسّع وجدت الفرصة سانحة بفعل اختلال موازين القوى لمحاولة تقويض روسيا الشيوعية سابقاً، عبر دول الطوق المحيطة بها وخصوصاً أوكرانيا التي شهدت ما عرف بالثورة البرتقالية بهدف وضع حد لتدخل روسيا في شؤون أوكرانيا عام 2004 (أي بعد عام على غزو العراق) وذلك احتجاجاً على ما تردّد عن فساد وتدهور الأوضاع الاقتصادية وترهيب للناخبين وتزوير تصويتهم خلال جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية.
وقد حظيت الثورة الملوّنة البرتقالية في أوكرانيا والوردية في جورجيا بدعم لافت من الولايات المتحدة واوروبا ضمن شعار ظاهره دعم حرية الشعوب، فيما باطنه تحقيق أهدافهم السياسية الخارجية. إنه الدعم نفسه الذي أعلنوه لحرية العراق الذي لم يزل يسبح بدمه حتى اليوم، وأيضاً في ليبيا التي لم يتوقف شلال الدم فيها، ولا أيضاً في سوريا كما وفي كل بلد لفحته رياح الثورات المسمومة او «ثورات تسليم مفتاح» كما وصفها محمد حسنين هيكل.
ولعلّ الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي كان من أوائل الذين استشعروا لغم أوكرانيا، وعقب زيارته لكل من روسيا واوكرانيا ودراسته لمعضلتها او اللغم الذي سينفجر طال الزمن أم قصر، اقترح القذافي حلّاً ينصّ على تضمين دول عدم الانحياز عضوية اوكرانيا الدولة المحاذية لروسيا من جهة، والساعية للإنضمام لحلف شمال الأطلسي توسّلاً للحماية الأمنية من جهة أخرى. وفي حين ان اتفاقية منيسك نصّت على حياد أوكرانيا التي وبتوجيه اميركي اوروبي بدت أكثر تصميماً على الانحياز الى الناتو ما يحمله هذا الانحياز من استعداء استراتيجي لروسيا التي تمكّن رئيسها المولود من رحم الكي جي بي، من نفض غبار الترهل عنها واعادة الحياة اليها لتصبح لاعباً وقطباً إستراتيجيا على المسرح الدولي.
ثمة من يرى أن دهاقنة المجمّع الصناعي العسكري وتيار المحافظين الجدد في الحزبين الجمهوري والديمقراطي معاً، غير منزعجين من وجود اوروبا تحت أقدام الدب الروسي. الابتزاز الاميركي ليس أمراً خاصاً بالعرب وحدهم. والحماية الاميركية لأوروبا لها كلفة باهظة سبق وحدّدها دونالد ترامب لمستشارة المانيا السابقة انجيلا ميركل إذ طالبها بمضاعفة ميزانية المانيا ومساهمتها في صندوق الناتو، الحلف الذي تعتبر الكلمة ما فوق العليا فيه لواشنطن التي تحرّك رادارته وأساطيله البحرية وأسرابه الجوية بما يخدم المصالح الاستراتيجية الاميركية.
«حلف الناتو ميّت سريرياً» عبارة أطلقها عام 2019 ايمانويل ماكرون جرّاء إخفاقه في مواجهة الاندفاعة التركية غربي ليبيا وشرقي المتوسط من جهة وانتشار قوات فاغنر الروسية في عدد من القواعد العسكرية الإستراتيجية في ليبيا من جهة أخرى. وعبر صحراء ليبيا تمدّد انتشار ونفوذ فاغنر في دول الساحل والصحراء الافريقية التي تشهد انكفاءً بل وخروجاً لفرنسا ونفوذها التقليدي من مستعمراتها السابقة، بدليل الأدوار التي لعبتها فاغنر في افريقيا الوسطى وبوركينا فاسو ومالي، وأيضاً في تشاد التي قتل رئيسها السابق ادريس ديبي صديق فرنسا الأول دون ان تتمكن رادارات فرنسا من حمايته وانقاذه.
فكرة تأسيس «ناتو اوروبي» يتولى حماية اوروبا، بعيدا عن واشنطن، ألهمت قادة اوروبا وتحدث عنها ماكرون وميركل فضلاً عن مجلس اوروبا والاتحاد الاوروبي. فالناتو الاوروبي برأيهم سيُخرج اوروبا من زاوية الابتزاز الأميركي المهين والمتواصل. لكنها بقدر ما تشكل حاجة استراتيجية ملحّة لأوروبا، بقدر ما أصبحت بعد غزوة بوتين لاوكرانيا من الماضي. فالذي جرى تفعيله دفاعاً عن أوروبا هو حلف الناتو بقيادته الاميركية التي لم تزل تتبنّى عقيدة دونالد رامسفيلد خلال غزو العراق ومقولته حول «أوروبا العجوز». ورغم أن مداخلة بوتين العسكرية المعزّزة بمنصّات نووية أنهت مشهدية الأحادية القطبية وفتحت المشهد على عالم متعدد القطبيات خصوصاً في ضوء الموقف الصيني الرافض لحالة الاستعداء الاميركية الاوروبية لروسيا، إلا أنّ الولايات المتحدة لن تسمح للناتو الاوروبي أن يعدو أكثر من مجرد أضغاث أحلام أو حبر على ورق.
«لقد تعلّمنا من درس ليبيا» عبارة شهيرة ملكيتها محفوظة لفلاديمير بوتين. فالثورات العربية الملونة لم تهدف الا لقطع الرؤوس المحسوبة استراتيجياً على روسيا. هذا ما حصل في العراق الذي ذبح من الوريد الى الوريد بالسيف الأميركي البريطاني عام 2003 ثم سلّم لايران لتستكمل عملية سلخه، ويومها كانت روسيا تعيش تداعيات تفكك الاتحاد السوفياتي. وهذا ما حصل في ليبيا عام 2011 وبقرار من مجلس الأمن الدولي، مرّر بخدعة حالت دون الفيتو الروسي الصيني الذي كان بالمرصاد في سوريا مثنى وثلاث ورباع. ومن هذا الفيتو المزدوج كانت شرارة التحولات الاستراتيجية بالنسبة لروسيا والصين، رغم تحول سوريا الى مربعات للنفوذ الاقليمي والدولي.
التدخل الروسي في اوكرانيا مهّد له بوتين بمطالعة تاريخية استراتيجية عمّا فعله لينين وستالين، وعن الأراضي التي منحوها لهذه الدولة او تلك، ومنها «اوكرانيا الحديثة» كما يصفها بوتين الذي يطالب بحيادها الكامل. لعنة الجغرافيا هي تلك التي تصيب اوكرانيا اليوم. وربما تصيب فنلندا او السويد وغيرهم غداً. ما يفعله بوتين هو لأجل ضمان أمن روسيا واسترداد كافة منصّات ومجسّات قوتها مع صواعقها المنزوعة. وقد بدأ الامر عربياً ويستكمل اليوم أوروبياً، في سياق مشهدية تجحّظ وتكرّس معادلات النفوذ والقوة بتضاريسها الجديدة.
غزوة بوتين لأوكرانيا كما يحلو للغرب توصيفها، تقابل بحرب عالمية اقتصادية مالية على روسيا، وثمة من يعتقد أن هذه الحرب الاقتصادية غير المرتجلة والمستعرة على روسيا اليوم، كانت محضرة بالتفاصيل لتشهر في وجه سيّد الكرملين تزامناً مع ثورة ملوّنة في موسكو عاصمة الإتحاد الروسي إياه. وقد استشعر بوتين هذه الحرب المالية الاقتصادية ووضعها في خانة «العدائية ضد بلاده» ما دفعه لاستنفار منصّات قوة الردع النووية الروسية. انه الاستنفار الذي لم يرغب أحد على ظهر الكوكب بمجرد تخيله وليس سماعه كقرار استراتيجي اتخذه بوتين.
المسألة بالتأكيد أبعد من أوكرانيا التي لم تستطع أن تكون جسراً بين الشرق والغرب على حد تعبير كيسنجر، ولا دولة في حركة عدم الانحياز كما اقترح القذافي، واختار رئيسها فلوديمير زيلينسكي أن تكون كحصان طروادة الذي تعبر فوقه ومن تحته مشاريع تفكيك روسيا وتفتيها. وهنا بيت قصيد غزوة بوتين لاوكرانيا التي تشاء لعنة الجغرافيا والمحقونين بإبرة الثورات الملونة أن يضعوها بين أقدام الفيلة.
وللمفارقة المثيرة للإشفاق ثمّة في لبنان على شاكلة وزير خارجيته النجيب عبدالله ابوحبيب من يريد أن يضع لبنان وانطلاقا من هذا الصراع الدولي الخطير بين أقدام الفيلة. وكأنّ الفيلة التي تعيث بلبنان لا تكفيه. ومن سوء حظ لبنان العاثر ابتلاؤه بعينة من وزراء الخارجية الذين يقامرون بلبنان جرّاء سقطاتهم الدبلوماسية عن سابق تصور وتصميم. ويرجّح أن ابوحبيب الذي صمت عن صهاريج ايران وتغوّلها، لا يعلم أن روسيا دولة جارة للبنان وتقيم على تخومه الشمالية البحرية منها والبرية، ما دفعه للاعتقاد أن بيانه باسم لبنان لإدانة التدخل الروسي في اوكرانيا سيؤدي الى تقهقر «كتائب بوتين» وهزيمتها المنكرة.
أخيراً، كم هو مثير للإشفاق الكلام عن إخفاق غزوة بوتين لاوكرانيا التي لم يمضِ عليها سوى بضعة أيام والتي تحمل أهدافاً سياسية قد تحل بتبني قادة اوكرانيا للحياد وتسليمهم للسلاح، أن الولايات المتحدة وبريطانيا بالتخادم مع ايران غزوا العراق المنزوع السلاح بعد 13 عاما من الحصار و 21 يوما من العدوان. وأن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة وملحقاتهم الجهادية الإسلاموية والعربية غزوا ليبيا بعد عدوان استمر ثمانية أشهر.
وأخيراً أيضاً يا سادة، إنها حروب وثورات أنابيب النفط والغاز والطاقة وترسيم حدود الهيمنة والنفوذ وسرقة الثروات وشفطها، وحدها التي تستحق الكثير من التضحيات، ولأجلها فقط وفي سبيلها تشنّ الحروب وتنتشر المآسي الانسانية التي ظنّ العالم أن جائحة كورونا كارثتها الأكبر.
لكن الذي يلح في طرح نفسه، هو عن الاسباب الحقيقية الكامنة وراء اختفاء طوارىء جائحة كورونا من مقدمات الأخبار والمطارات العالمية، فهل يعود السبب لتزخير بوتين لمنصّاته النووية، أم يعود لجديّة الكلام المتسرّب عن رقصة نووية جديدة بين البايدينة والخامنئية!.
راقبوا فيينا وللحديث بقية..