بعد أسبوع من بداية الحملة العسكريّة التي شنّها فلاديمير بوتين في اتجاه أوكرانيا، يتبيّن أن حسابات الرئيس الروسي، الذي يتولى إدارة أمور بلده منذ أصبح رئيساً للوزراء في العام 1999، لم تكن من النوع الدقيق.
يعود ذلك إلى عوامل عدّة. في مقدّم هذه العوامل صمود الأوكرانيين المتمسّكين، في معظمهم، بهويتهم الوطنيّة من جهة وتميّز كنيستهم الأرثوذكسية عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من جهة أخرى.
صحيح أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي يهودي، لكن الصحيح أيضاً أن لا عيب من أيّ نوع في ذلك. أكثر من ذلك تدلّ يهودية زيلنسكي، الممثل الكوميدي السابق، على الوجه الحضاري لأوكرانيا ومجتمعها ومدى بعدها عن تهمة «النازيّة» التي سعى بوتين والمحيطون به إلى إلحاقها بها.
ثمّة عوامل أخرى جعلت حسابات الرئيس الروسي في غير محلّها. لعلّ من بين أهم هذه العوامل رد الفعل الأوروبي والدولي على التصعيد الروسي في أوكرانيا. وصل رد التصعيد في موسكو إلى الإعلان عن وضع الترسانة النووية الروسيّة في حال تأهب. ساعد ذلك في صدور ردّ فعل مماثل عن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي أعلن بدوره عن حال استنفار للسلاح النووي البريطاني. الأكيد أنّ ذلك يساعد جونسون في تحسين وضعه الداخلي في وقت صار مستقبله السياسي مشكوكاً فيه.
لكن يبقى الأهمّ من ذلك كلّه ومن تمثيليات بوريس جونسون، أنّ هناك استنفاراً ألمانيا في وجه روسيا وبوتين. قد يكون الخطأ الألماني الخطأ الأكبر الذي ارتكبه بوتين بعدما اعتقد أن دولة مثل ألمانيا لا يمكن أن تذهب بعيداً في التصدي لروسيا. ظنّ الرئيس الروسي أن اعتماد ألمانيا، بنسبة كبيرة على الغاز الروسي، سيجعلها تتخذ موقفاً متردداً من غزوة أوكرانيا. لم يحدث شيء من ذلك، تبدو ألمانيا في الوقت الحاضر مستنفرة إلى أبعد حدود. ألمانيا، التي استعادت وحدتها بعد انهيار جدار برلين في العام 1989، قلب أوروبا.
للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية، تفكّر ألمانيا في إعادة بناء قوتها العسكرية وهي خصصت مئة مليار يور لتحقيق هذا الهدف في ضوء السياسة البوتينيّة وما تثيره من مخاوف. بين هذه المخاوف صعود التيّار اليميني المتطرّف داخل ألمانيا نفسها مع ما يعنيه ذلك من استعادة لذكريات مؤلمة في التاريخ الألماني الحديث. تسعى الأحزاب الألمانية الكبيرة إلى تفادي العودة إلى النازية وإلى مرحلة صعود هتلر في ثلاثينات القرن الماضي. ساهم مثل هذا الخوف من اليمين المتطرف الألماني إلى حد كبير في بلورة الموقف الذي اتخذته برلين من روسيا وفلاديمير بوتين. لا يمكن، بالطبع، تجاهل حماسة ألمانيا ودول أوروبيّة أخرى لتزويد أوكرانيا بالسلاح في ضوء جدّية الشعب الأوكراني في مقاومة القوات الروسيّة.
عزلت روسيا نفسها عن العالم، لا شكّ أيضاً أن التقرّب من الصين ليس رهاناً رابحاً نظراً إلى أن لدى بيجينغ حسابات خاصة بها. ستستفيد الصين إلى حد كبير من أيّ ضعف روسي، خصوصاً أنّ لديها حدوداً مشتركة طويلة مع الدولة الجارة، ولديها «مصلحة في تعرّض الاقتصاد الروسي لهزّة قوية كي يزداد اعتماده على الصين»، حسب تعبير خبير قديم في الشؤون الروسية، عرف الاتحاد السوفياتي من قرب وعاش فترة ما بعد انهياره.
ثمّة حاجة إلى معرفة هل يستطيع فلاديمير بوتين التراجع والبحث عن تسوية كان في استطاعته الوصول إليها بمجرّد حشد قوات على طول حدود روسيا مع أوكرانيا. مثل هذا التراجع أكثر من ضروري في ضوء المخاطر التي يعيش في ظلّها العالم. يحتاج بوتين من أجل العودة عن التصعيد إلى موقف أميركي شجاع يتفهّم أن لدى روسيا مخاوف حقيقيّة ومشروعة من انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو). في مثل حال روسيا في وضعها الحالي، توجد حاجة إلى عقل أميركي مختلف، عقل يستطيع اختراع تسويات من نوع تلك التي نتجت عن أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في العام 1962. وقتذاك، حسم الرئيس الأميركي جون كينيدي أمره وأكد أنّ الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح بنصب صواريخ سوفياتية في كوبا حتّى لو أدّى ذلك إلى حرب نووية. ذهب الأميركيون إلى حد اعتراض سفينة كانت تنقل أجزاء من الصواريخ السوفياتية.
في نهاية المطاف، أمكن العثور على صيغة أنقذت ماء الوجه للزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف. تراجع الاتحاد السوفياتي عن نشر صواريخ في كوبا في مقابل سحب أميركا صواريخ كانت في تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي وذات الحدود المشتركة مع جمهوريات سوفياتية عدّة مثل جورجيا وأرمينيا…
يُفترض في الولايات المتحدة مساعدة بوتين بدل الاستمرار في تحديه وذلك على الرغم من أن بعض مطالب الرئيس الروسي تبدو من النوع غير الواقعي وتتجاوز أوكرانيا. بكلام أوضح، أثبت فلاديمير بوتين، عبر كلّ ما قام به، بما في ذلك مشاركته في الحرب على الشعب السوري، أنّه شخص خطير جدّاً ولا حدود للتصعيد الذي يمكن أن يذهب إليه، خصوصاً بعد إرساله دباباته إلى أوكرانيا وقصفه العشوائي لمدن أوكرانية وتسبّبه بتهجير نصف مليون أوكراني في أقلّ تقدير…
الأكيد أن الرئيس الروسي، الذي يعتقد أن لديه القدرة على التعايش مع العقوبات التي فرضت على روسيا، سيجد نفسه مضطراً إلى البحث عن صيغة لتسوية ما، على غرار ما فعل خروتشوف في العام 1962. من يجد مثل هذه الصيغة لفلاديمير بوتين الذي يتبيّن يوماً بعد يوم أنّه أسير عقد كثيرة، من بينها عقدة استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي، كما لو أن هناك أمجاداً سوفياتية تُستأهل أن تُستعاد يوماً؟
قد تكون مشكلة العالم في أيّامنا هذه، في غياب القيادات التاريخيّة القادرة على اتخاذ قرارات كبيرة قد لا تكون ذات شعبيّة، قيادات قادرة على استيعاب أن فلاديمير بوتين شخص خطر، في حاجة إلى التخلي عن أوهامه، لكنّ لا خيار آخر غير السعي إلى احتوائه من أجل تفادي كارثة ذات طابع عالمي…