لم يحدث ولو لمرة واحدة، أن فزت بإجابة عن سؤال لطالما طرحته على ضباط كبار من الجيش السوري، لدى زيارتي في معرض العمل لمدينة تدمر، حول مكان قلعة الأمير فخر الدين المعني في تدمر أو في أي مكان آخر في سوريا. السؤال كان يُقابل دائماً بالإنكار المترافق مع جرعة كبيرة من الامتعاض حتى من قِبَل الأدّلاء السياحيين، بالرغم من تأكيدي لهم ورود ذلك في أكثر من مرجع ووثيقة. الإستياء من الإجابة على هذا السؤال لم يعنِ لي سوى الإمعان في إنكار أي تمدد سياسي أو عسكري أو ثقافي من لبنان باتجاه الداخل السوري، والإصرار المتمادي على الإيحاء بعدم نهائية لبنان واتهامه بل الحكم عليه بجرم الإنسلاخ عن سوريا.
الإعلام الحربي لبعض فصائل المعارضة والفضائيات العربية تكرّم بالإجابة على السؤال الذي لم يرغب أحد في السابق بالإجابة عليه، فألف شكر على توثيق وجود هذا المكان حتى ولو كان ذلك في معرض تناوله كموقع عسكري هام تدور حوله معارك ضارية. أجل، دخل المعلم العمراني اللبناني ذو البعد العسكري والإقتصادي والذي يدلّل على حقبة مضيئة في تاريخ لبنان الوثائق العربية المصوّرة والمتلفزة. هذا المعلم المشرف على مدينة تدمر التي خرجت عن وظيفتها منذ القرن السادس عشر كسائر المدائن على طريق الحرير، هو الإضافة العمرانية العربية الوحيدة على هذا المكان الأثري التاريخي الفريد صاحب الموقع المتميّز في قلب بادية الشام بين مدن حوض الفرات شرقاً ومدن الساحل السوري غرباً.
أجل… لقد امتدت إمارة فخر الدين من جبل لبنان شمالاً لتصل إلى حمص وحماه ومن ثم إلى حلب وإنطاكية حيث بنى الأمير قلعة في كلّ منها بالإضافة الى قلعة في تدمر. هذا ما تُظهره دراسات عدنان البخيت الذي يعتبر فخر الدين زعيماً محلياً من الشام أعطاه العثمانيون فرصة لإخضاع القيادات والزعامات الإقليمية الأخرى في البلاد لحسابهم. نفوذ فخر الدين نحو الداخل السوري حتى حلب يكتسب بعداً دولياً إذا ما نظرنا إليه من خلال علاقات الأمير بأوروبا الغربية، وانفتاح الموانئ البحرية التي سيطر عليها أمام التجارة الأوروبية، وتطوير إنتاج الحرير كمحصول قابل للتصدير. وهذا ما يفسر استخدام التجار الهولنديين والإنكليز والفرنسيين المرافئ اللبنانية وإقامة الشركات التجارية الأوروبية مكاتب لها في حلب في الداخل السوري.
الحرب في تدمر بين قوات النظام السوري وقوات النخبة الروسية من جهة وتنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى، وإلى أن تنجلي غبارها، تستخرج من لاوعينا التاريخي الصراع للسيطرة على طريق الحرير. طريق التجارة القديمة والأهم في تاريخ البشرية والتي كرّثت دورها الحضاري على امتداد أكثر من ألفي عام وحملت تسميات عدة، «طريق التوابل»، «طريق البخور»، تبعاً لأهمية السلعة العالمية الرائجة.
الإختلافات كثيرة بين الأمس واليوم، الطريق التي عبرها بالأمس نهر لا ينبض من القوافل بين الصحاري والوديان والهضاب والبراري لينتج مزيجاً ثقافياً حضارياً فريداً، والتي ساهمت بنشر المسيحية والإسلام والهندوسية والزرادشتية والمانوية والتي أدخلت الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى أندونيسيا وماليزيا عن طريق التجار والمسافرين الذين ساروا في المسالك التجارية للهند وشبه الجزيرة العربية، هذه الطريق اليوم تتصارع عليها ولاية الفقيه والفكر التكفيري لداعش وآلة عسكرية لنظام سياسي رحَّل أكثر من ثلث سكانه إلى أكثر من دولة أوروبية وعربية. أمّا السلعة الرائجة على الطريق فلم تعد تنطبق عليها أيٌّ من التسميات التي عرفتها هذه الطريق حيث لا توابل ولا حرير ولا بخور. فهي اليوم طريق صراع الأصوليات وطريق النفط المهرّب وطريق تصدير الثورة وطريق السلاح إلى سوريا وإلى لبنان وطريق وضع اليد على العراق وإفقاره، هي طريق تحلل الكيانات السياسية في العالم العربي وإبادة شعوبه واقتصاداته.
والى أن تنجلي الغبار عن تدمر وأبعاد الكر والفر بين النظام السوري وداعش وأسس صفقة الثنائي الأميركي -الروسي في سوريا أو في الإقليم تستحضرني مشهدية مقارنة من وحي المشهد السوري المؤلم، توغل فخر الدين في العمق السوري رغماً عن كلّ من والي حلب ووالي أنطاكيا ووالي الشام وفي ظل ضعف الباب العالي في اسطنبول، اليوم يتمدد فلاديمير بوتين في الداخل السوري رغماً عن والي الشام وحلب وأنطاكية وفي ظل ضعف الباب العالي في أنقرة.
فلاديمير بوتين المعني الكبير يُعيدنا على طريقته إلى الزمن الجميل من بوابة قلعة الأمير فخر الدين في تدمر…!!!!
*مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات