المجتمع الدولي، مُمثَّلا بالأمم المتحدة، يُصدِر قرارات، مُلزِمة وغير ملزِمة، منها ما يلاقي طريقه إلى التنفيذ ومنها ما يظل حبرا على ورق. ومن القرارات التي لم ترَ النور هي تلك المتعلقة بالنزاع العربي – الاسرائيلي وعددها يتجاوز المئة. فالاحتلال الإسرائيلي مستمر منذ 1948 والاستيطان في أحسن أحواله. ومن أبرز القرارات التي استقرت في الأرشيف الأممي القرار 194 في كانون الأول 1948، المعروف «بحق العودة» للاجئين الفلسطينيين.
وجاء إنشاء وكالة غوث اللاجئين (UNRWA) في 1949 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين لفترة قصيرة امتدت إلى اليوم. الوكالة الأممية الأخرى لغوث اللاجئين أُنشئت في 1950 (UNHCR). ومن مهامها مساعدة اللاجئين على المستوى الدولي للانتقال من حالة اللجوء المؤقت إلى الإدماج (integration) في البلد المضيف أو الانتقال إلى بلد ثالث، وإذا أمكن إلى البلد الذي خرج منه اللاجئون.
هنا نصل إلى مسألة النزوح السوري إلى لبنان. التعامل الدولي مع اللاجئين (وليس النازحين بحسب تعريف الأمم المتحدة) في أي بلد، لا سيما الدول الأضعف، أي الأقل قدرة على مواجهة الدول الكبرى الداعمة للسياسة الأممية، يكون عادة على حساب الدولة المضيفة. والهدف غير المعلن تخفيف الأعباء عن كاهل الأمم المتحدة والدول الداعمة. فلا عجب أن يطالب أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون بتجنيس اللاجئين (أي توطينهم بالمفهوم اللبناني)، أو إدماجهم في البلد المضيف أو في أي بلد آخر إذا كان ذلك متاحا.
بكلام آخر، إذا لم يُلجم المجتمع الدولي فلن يتردّد بفرض الأمر الواقع على أي بلد باسم حقوق الإنسان أو أي حقوق تلتزم بها دول وتخالفها دول أخرى بمعرفة المجتمع الدولي ورضاه. أما الوعود بالدعم، المادي وسواه، فهي غير مُلزِمة، خصوصا إذا دامت الأزمة لسنوات، ولا قدرة للبنان أن يضغط على الدول المانحة، مثلما فعلت تركيا، مثلا، عبر الابتزاز المنظم لدول الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن الدول النافذة قد تخضع للابتزاز، وإن على حساب حقوق الإنسان، عندما تدعو الحاجة.
في الدستور اللبناني مادة غير مألوفة في الدساتير لم تأتِ من فراغ، حيث التأكيد، في مقدمة الدستور المُعَدَّل بعد الحرب، على رفض التوطين. ولهذا الأمر دلالة معبّرة عن إرادة اللبنانيين المشتركة وواقع اللجوء الفلسطيني في لبنان ومفاعيله السياسية والاقتصادية والأمنية منذ أكثر من نصف قرن، فضلا عن النزاعات المسلحة التي انخرطت فيها الفصائل الفلسطينية في زمن الحرب ومعها المخيمات الفلسطينية والبيئات الحاضنة لها.
لذلك، فإن التوطين ليس وهمًا في الحالة اللبنانية، بل يظل أمرا واقعا محتملا ما دامت إسرائيل ترفض حل الدولتَين وما دام التأييد الأميركي للموقف الإسرائيلي ثابتا. فإذا لم تكن للفلسطينيين دولة يعودون إليها، كما سائر الشعوب، فإلى أين يذهبون؟ جواب المجتمع الدولي الإدماج أو التوطين في البلد المضيف، أي عمليا منحهم الجنسية لأن لبنان هو الأضعف في المعادلة بالمقارنة مع إسرائيل، الجهة المسبِّبة في تحويل الفلسطينيين من أصحاب حقوق طبيعية في أرضهم ووطنهم إلى لاجئين، بلا دولة تمنحهم الجنسية أو حق العودة إليها بالحد الأدنى، أو التوجه إلى بلد آخر كمواطنين فلسطينيين، أصحاب حقوق معترف بها دوليا وليس كلاجئين.
وعلى رغم اختلاف الحالة السورية في السياسة والقانون عن الحالة الفلسطينية، فإن المجتمع الدولي يتّبع السياسة نفسها التي يعتمدها بالنسبة إلى فلسطين أو اللاجئين بصورة عامة. فأي حلّ يصبح مقبولا دوليا باستثناء إمكانية عودة اللاجئين إلى بلدهم. فالعودة الطوعية لا تختلف عمليا عن استحالة «حق عودة» اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم في فلسطين التاريخية ما دام النزاع قائما وإمكانية إيجاد الحلول له غير متوافرة.
المجتمع الدولي لا يميز بين اللجوء الفلسطيني وإيجاد الحلول له عبر تسوية عادلة للنزاع العربي – الإسرائيلي، واللجوء السوري المرتبط بالدولة السورية بمعزل عن مآل الحرب وإمكانية إيجاد تسوية سياسية للنزاع. وبما أن تسوية النزاع في سوريا لن تأتي في وقت قريب، فهذا يعني عمليا الإبقاء على الوضع القائم للنزوح السوري في لبنان إلى أمد طويل. وهذا الوضع مُلزِم للبنان كأمر واقع، بينما وعود المجتمع الدولي غير ملزِمة. وإذا أبدت الدول الكبرى الآن تفهمها للوضع الضاغط على لبنان، ودعمها له بسبب التأثيرات السلبية لأكثر من مليون ونصف المليون سوري نزحوا إلى لبنان، فما الذي يضمن دعمها وحرصها بعد سنة أو سنتين أو أكثر؟
وإذا كان ثمة درس يمكن أن يستفيد منه لبنان فهو طريقة تعامل المجتمع الدولي مع اللاجئين الفلسطينيين والمعايير المتناقضة التي يعتمدها تجاه إسرائيل، الدولة المحتلة، والفلسطينيين، ضحايا الاحتلال. فإذا لم يحصل التوطين بالفرض فإنه قد يحصل طوعا بحكم الأمر الواقع.