بتحب لبنان تطوّع في جيشه
“بدك دولة قوية”؟ “بدك استقلال حقيقي”؟ آلاف المتطوعين الجدد سينضمون إلى صفوف الجيش اللبناني… كنّ واحداً منهم. إذا كنت شابا مسيحياً بين 18 و28 سنة، أعزب، متزوج أو مطلّق، لكن من دون أولاد، لست سكيراً، لا تتعاطى المخدرات، ولا تلعب الميسر، فأنت المقصود من هذه الحملة التي أطلقتها مؤسسة “لابورا” وتتزامن مع إقرار الحكومة لخطة تعزيز انتشار الجيش في الجنوب اللبناني، وبالتالي فرض سيادة الشرعية على مختلف الأراضي اللبنانية، انطلاقاً من خطوط المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وتطبيقاً للقرار 1701 المشترط لوقف عدوانها الأخير على لبنان.
يجب أن تحقق الحملة “كل الفرق”، في تحفيز الشباب المسيحي على التطوّع في دورة ستشمل تطويع 1500 عنصر، من ضمن أسس تحقيق التوازن الطائفي. على أن يصل الرقم لاحقاً إلى ستة آلاف عنصر، يفترض أن يتوزعوا مناصفة بين مسيحيين ومسلمين، بصرف النظر عن المهمة الوطنية الجامعة للأجهزة الأمنية والقوى العسكرية.
إنطلاقا من ذلك، كانت دعوة الأب طوني خضرا لكل من تلقى رسالة منه تخبره عن الحملة، أن يقدم مرشحاً مسيحياً واحداً على الأقل. وهذه دعوة مشابهة لتلك التي وجهها أيضاً للإكليروس، كي ترفد مدارسه مؤسسة الجيش بتلميذين أو ثلاثة على الأقل من كل منها، ربما لا يرغبون أو هم لا يملكون قدرة متابعة دراستهم. فلماذا كل هذا الجهد إذا كان الشباب المسيحي تحديداً يعتبر ابن المؤسسة العسكرية ويقدس شرعيتها؟
بين خرق الأنظمة والكسل
لا شك أن الأعباء المالية الناتجة عن تدهور قيمة الليرة اللبنانية “بهدلت البزة” وكل وظيفة رسمية. “الرواتب اللي بتسوى قرش” هشّلت الكثيرين من صفوف العسكر. لينعكس فقر الحال حتى على وجوه عناصره المتجهمة وحماسة هؤلاء للمؤسسة. “الأزمة “قرّفتنا” يقول أحد العسكريين المسرّحين من الخدمة، وصرنا مقسمين بين “نحن وهم”. والمقصود بـ”هم” كما يشرح “من جرى غض النظر عن خرقهم أنظمة منع مزاولة مهن موازية لمهمتهم الأساسية، ولم تعد البزة العسكرية كافية لتردعهم.
حتى أن البعض تجرأ على العمل سائق “توك توك” من دون أن يخلع البزة، وآخرون خدموا على طاولات الزبائن في المطاعم، وشغل غيرهم وساطاتهم حتى لا يلتحقوا بمهماتهم. أما “نحن” أي المسيحيين، كما يقول العسكري المسرّح “فلسنا ممن يحبذون العمل الجانبي، ليس لأننا ملتزمون بالقوانين فقط، إنما ربما لأننا “كسلانين” وقد أردناها وظيفة مريحة تؤمن كل الحوافز لنا ولعائلاتنا، من دون الحاجة لممارسة أي مهنة أخرى. إلى أن أتت الأزمة الاقتصادية وأوقعتنا جميعا في الحضيض”.
وضع الجيش أيضاً في مواجهة أهله في ساحات الحراك المدني، لم يخدم صورته التي تحبذها المجتمعات المسيحية تحديداً. كما أن فائض الفوضى الذي وضع العسكر في مواجهة تجار المخدرات والسلاح والسيارات المسروقة المحتمين بعباءات عشائرية، جعل المسيحيين تحديداً يحجمون عن تقديم أولادهم للمؤسسة. يقول أحدهم “لماذا نرسلهم ليقتلوا على أيدي أفراد عصابات لا يقيمون أيّ حساب لأي شرعية”. فيما يشرح عسكري سابق “أننا في مجتمعاتنا المسيحية نربي أولادنا على الرفاهية. ولا نريد لهم البهدلة”. مضيفاً “أنا عسكري ابن عسكري، لكني حتماً لن أشجع ابني أن يسلك الخط نفسه”.
الجيش معنويات وعنفوان أولاً
يتابع الشباب المسيحي بمعظمه دراسته يقول أحد رؤساء البلديات المسيحية، وهذا ربما يجعل الأهل يطمحون لانضمام أولادهم إلى المدرسة الحربية. ويعتبرون أن العسكر هو لأولاد القرى التي تعاني من انعدام فرص العمل. الكثيرون حتى في المجتمعات الفقيرة أيضاً، تقبلوا فكرة هجرة أولادهم، خصوصاً بعد الأزمة المالية التي ألمّت بالبلد، ولم تعد الناس مقتنعة بأن راتب العسكري يمكنه أن يفتح له بيتاً”.
بالنسبة لضابط متقاعد فإن “الجيش معنويات، وعندما يوضع هذا الجيش الذي تلقى التدريبات في مواجهة تظاهرة ما، أو يكلف بمهمات هي ليست في صلب مهماته المرتبطة بحماية الحدود والحفاظ على السيادة، فمن الطبيعي أن يشعر أننا نكبله بصلاحيات محدودة”.
تلاشى فائض العنفوان الذي يغذى به العسكر، وتسلل إلى صفوفه روتين الوظيفة المملة. ولم تعد هذه الوظيفة مستحبة بالنسبة إلى جزء كبير من “الشباب المسيحي” وإلى ذويهم. لكن مجدداً ماذا عن الشعارات التي يرفعها المسيحيون تحديداً حول كونهم أبناء المؤسسات الشرعية والمدافعين عنها؟ أين تقف كوادر الأحزاب المسيحية من تحفيز الشباب على رفد المؤسسة بطاقاتها؟ وهل يكفي أن تنادي بحصرية السلاح بيد الجيش، أم يجب أن تقرن أفعالها بالأعمال، فتقدم شبابها أو تشجعهم على أن يكونوا طاقات تعزز المؤسسة بقناعاتها؟
واقع واحد في المؤسسات المدنية والعسكرية
لا ينفصل واقع المسيحيين في المؤسسة العسكرية، وحماسهم للتطوع في صفوفها بالطبع، عن نظرة هذا “المكون” لحضوره في وظائف القطاع العام عموماً. أقله في المرحلة الأخيرة. وهذا ربما ما تعكسه الأرقام، التي على الرغم مما تكشفه من تطور للحضور المسيحي في المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية منذ العام 2008 فإنها ليست مؤشراً مطمئناً بالنسبة لتحقيق التوازن الطائفي في مختلف هذه الوظائف وفئاتها.
وفقاً لهذه الأرقام التي تستند إلى دراسات معمقة أجرتها “لابورا” وتحديث دائم لها، فإن تدهور الحضور المسيحي في مؤسسات الدولة كان مخيفاً عندما انطلقت بأعمالها في العام 2007.
جاء جهد “لابورا” في إجراء هذه الدراسات بغرض تحقيق ظروف عودة المسيحيين إلى الدولة من خلال كفاءتهم ومهنيتهم وليس بقوة واسطتهم، تنفيذاً لدعوات الكنيسة ومجمع السينودس من أجل لبنان.
أظهرت الأرقام أن عدد المسيحيين في وظائف الدولة في العام 1990 كان يشكل نسبة 42.5 في المئة من مجمل أعداد الوظائف، ولكن الرقم هبط في 2008 إلى ما دون الـ 26.5 في المئة.
يقول الأب خضرا “إنه بعد عملنا لمدة عشرة أعوام (بين 2008 و 2018) أجرينا مسحاً شاملاً في حزيران 2019، فتبين أن نسبة المسيحيين في وظائف الدولة في القطاع المدني أصبحت 34.8 في المئة، وفي القطاع العسكري 32.5 في المئة.
في المقابل، بيّنت الدراسة التي قمنا بها مع جمعيات الأعمال البابوية في الأول من تشرين الأول من العام 2024، أنه على الرغم من المعلومات التي لدينا بترك الكثيرين وظائفهم، ارتفع عدد الموظفين في القطاع العام المدني نحو 6500 شخص، هذا على الرغم من القرارات الصادرة بعدم التوظيف، وهذا ما يبين حشر الإدارة بالمستشارين أو بالعاملين “بالفاتورة” خلافا للقوانين المرعية. وعليه بينما حافظت أعداد المسيحيين في القوى العسكرية على نسبة 31 في المئة من حضورها في المؤسسات، تراجع الحضور المسيحي في القطاع المدني بنسبة أربعة في المئة ليصبح 30 في المئة، وبالتالي فإن مجمل الحضور العام للمسيحيين في قطاعات الدولة اليوم هو نحو 31 في المئة.
المسيحيون يحبذون المراكز
هذه القراءة السلبية للأرقام يمكن ان تتحول إيجابية، عندما ننظر اليها من ناحية سعي المسيحيين إلى الوظائف العليا في الدولة. فإغراءات الوظيفة أساسية جداً في تأمين حضور المسيحيين. وعليه نجد أن نسبة عناصر الأمن العام المسيحيين ترتفع إلى 44 في المئة.
ففي دورة أطلقت لملء 250 وظيفة مثلا تقدم 670 متطوعاً. بينما هي تنخفض في وظائف أجهزة أقل إغراء بالنسبة للشباب إلى 25 في المئة.
هكذا هي الحال بالنسبة لارتفاع أعداد المسيحيين في الفئات الوظيفية، فيلاحظ أن حضورهم لافت كمدراء في مختلف الفئات، وهذا ما يحاصر وجودهم في مواقع محدودة بأعدادها، لتتغلب الكمية على النوعية، ويظهر الحضور المسيحي بنسب متدنية في الإحصاءات التي تشمل مختلف وظائف الإدارات العامة. بينما يعتبر خضرا “أن المشكل بالنسبة لملء بعض هذه الوظائف بالمسيحيين، هي غالباً في نقص المعلومات حول الدورات، وكيفية التقدم لها، والأوراق التي يجب أن يؤمنوها، والإمتحانات التي يجب أن يجتازوها، وهنا يأتي دور “لابورا” تحديداً، التي تعمل على نشر المعرفة وتعميمها وبشكل مجاني.
علماً أنه لدى “لابورا” حالياً وفقاً لما يؤكده خضرا، خطة عشرية تبدأ من العام 2025 من أجل رفع نسبة الحضور المسيحي في القطاع العام بما يتخطى نسبة 36 في المئة. إلا أن ذلك سيحتاج كما يقول إلى كثير من العمل وإلى تضامن بين المكون المسيحي.
نقص المعلومات عائق أساسي
بالعودة إلى المؤسسات العسكرية والأمنية تحديداً، فهي وحدة لا يمكن تجزئتها. فالضابط يحتاج إلى العناصر لتنفيذ المهمات، والعناصر لا يمكنهم أن يتحركوا من دون قيادة ضابط. ومن هنا تأتي الأهمية التي توليها “لابورا” لتحفيز المسيحيين على المشاركة بالتطوع في الدورة المقبلة التي أطلقها الجيش. وربما أيضاً تداركاً لذلك الإرباك الذي حصل في حملة تطويع مشابهة أطلقت قبل نحو سنة لتطويع عناصر في مؤسسة قوى الأمن الداخلي.
“الميثاقية” التي تتطلب “شمول التطويع كل فئات المجتمع اللبناني” تسببت مثلاً بتأجيل متكرر لدورة أطلقتها مؤسسة قوى الأمن، من دون أن تعلن صراحة أن سبب التأجيل هو إحجام المسيحيين عن الترشح للدورة، مع أن كل المطلوب كان 400 عنصر مسيحي من 800.
لا يكفي بحسب الأب خضرا “أن نعرف بالدورة، وإنما يجب أن نحرص على تقديم ملف مكتمل لها. فنحن انطلاقاً من مهمتنا، نلتقي شباباً يقولون إنهم لم يقبلوا في دورة من الدورات لأنهم مسيحيون، بينما هذا ليس الواقع، فالمؤسسات محكومة بالمناصفة، لكن إذا كان ملف المرشح لا يتضمن كل المستندات المطلوبة ومن مصادرها المقبولة والموثوقة حتى لو كان هناك حاجة لمسيحيين فإن طلب الترشح سيرفض”.
الاختيار بين البلد والفندق
يؤثر النقص في المعلومات سلباً على انخراط المسيحيين في مؤسسات الدولة، مثلما تفعل إشاعة المعلومات المغلوطة أو المجتزأة. ووفقاً لما يقوله الأب خضرا، فإنه “على الرغم من كون الشائع بأن رواتب العسكر أصبحت متدنية جداً، يجب لفت النظر إلى أن الحوافز المقدمة للجيش في تحسن دائم، والرواتب ارتفعت إلى ما بين 400 و450 دولاراً وهناك اقتراحات قوانين في مجلس النواب لمزيد من التحسين”.
ولعلّ الأهم بالنسبة إلى خضرا هو “هل نريد فعلاً المشاركة في بناء دولتنا؟ فإذا كان الشباب يريد أن يحمي بلده وأهله عليه أن ينخرط في أجهزة الدولة وأسلاكها العسكرية والأمنية تحديداً. وإلا فليبحث عن فندق يعطيه خرجيته ويأويه ولا يتطلب منه أي تضحيات”.
لا تلوموا أحداً إذا لم تبنوا بلداً يشبهكم
يتابع خضرا “لا يكفي أن يتمسك المسيحيون بالشرعية إنما هم مسؤولون في تقديم أولادهم لبسط سلطتها. وإلا لا يحق لهم بعد عشرين عاماً أن يتفاجأوا بأن الدولة “ماشية” بدونهم وأنها لا تشبههم. الدولة كي تشبهنا يجب أن نصبح جزءاً منها، وهذا يتطلب تغييراً في المنطق المسيحي يبدأ من مدارسنا ومؤسساتنا”. مضيفاً أن “هذا ما تحاوله “لابورا” انطلاقاً من مبدأ أن الأمن لا يأتي إلا من الأمان والأمان يأتي من التوافق”.
ختاماً، يلفت خضرا “إلى أننا سمعنا من كل المرجعيات المسيحية والمسلمة أن وجود المسيحيين في الدولة هو ضمانة للبنان. وهذا دليل على أننا نريد أن يدخل المسيحيون إلى الدولة خدمة لكل طائفة. فنحن في مرحلة ستتطلب طاقات الكل لبناء دولة. فالوضع في لبنان والشرق الأوسط ينقلب، ولن نقوم بدولتنا إلا بجهودنا. الجيش اليوم في مهمة وطنية يريدها اللبنانيون عموماً والمسيحيون تحديداً. وعليه فإن استعادة شرعية السلاح وحماية الحدود، تحتاج إلى سواعد الشباب، وللدعم الذي يمكن أن يظهره المجتمع من خلال تقديم أبنائه للمؤسسة”.