ليس سرّا أنّ السلطنة العثمانيّة ضيّقت على الشيعة لدرجة تسيير الدوريّات العسكريّة لمنع إقامة مراسيم العزاء الحسيني بعاشوراء. وقد أطنب الباحث ابراهيم الحيدري بكتابه “تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي” بمراجعة ألوان التضييق الذي تعرّض له شيعة جبل عامل في ظلّ العثمانيّين إلى درجة دفعهم لإقامة مجالس العزاء الحسيني في بيوت الأقارب داخل النبطيّة، بعد وضع رقيب على مدخل الشارع حيث يلتقون. فإذا دخلت الدوريّات العثمانيّة الشارع، تحوّل مجلس العزاء إلى لقاء شاي. وليس سرّاً، أيضا، أنّ الأمير فيصل الهاشمي، الذي خطّط لتوحيد عرب آسيا تحت حكمه، أحاط نفسه بمساعدين بعضهم من عتاة كارهي الشيعة. ساطع الحصري مثلاً كان وزيراً للتربية في العراق في العهد الفيصلي. كقومي عربي، كان من المفترض به ألّا يتحفّظ على بناء المدارس في مناطق يكثر فيها المسيحيّون والشيعة العراقيّون، ولكنّ العكس حصل. كتب الحصري بمذكّراته، شارحاً رفضه انتشار دار المعلّمين في الحلّة والموصل:
“وأنا لم أتردّد في الحكم بأنّ تنفيذ هذه الخطّة – بناء دار معلّمين في الحلّة والموصل – يعرّض الوحدة الوطنيّة للخطر لأنّه كان من الطبيعي أن تكون الأكثريّة الساحقة من الطلّاب في الموصل من أبناء المسيحيّين وفي الحلّة من أبناء الجعفريّين” (راجع ساطع الحصري، مذكّراتي في العراق، 1967، بيروت، دار الملايين، الجزء الأوّل، ص80).
المثير للاهتمام في كتابات الحصري أنّ “الوحدة الوطنيّة” تتهدّد فقط لو استفاد من مدارس العراق أبناء الجعفريّين (أي الشيعة)، والمسيحيّين. أمّا أن يستفيد من العلم سواهم، فلا مشكلة، ودائما باسم العرب والعروبة التي كان الحصري من منظّريها. تالياً، أمّا وأنّ العثمانيّين قسوا على الشيعة كأقليّة وعاملوهم من منطلق مذهبي خالص، وأمّا وأنّ المشروع الفيصلي كان سيعاملهم على نفس الأساس باعتبار أنّ أيديولوجيا الوحدة العربيّة لم تكن يوماً غير غطاء رقيق لتبرير أولويّة العنصر السنّي على ما سواه بالمنطقة، فقد كان منطقيّا أن يقف شيعة لبنان إلى جانب قيامه في العشرينات من القرن الماضي، لا سيّما وأنّ أعدادهم تجعلهم فيه طائفة كبرى إلى جانب المسيحيّين والسنّة.
بيد أنّ العكس حدث: اجتمع أعيان جبل عامل في نيسان 1920 بوادي الحجير، وقرّروا رفض مشروع لبنان الكبير، وطالبوا بالوحدة مع سوريا، وبفيصل ملكاً. يمكن اليوم القطع بما يلي: من حسن حظّ الشيعة أنّ مطالبهم آنذاك لم تتحقّق. بالحقيقة، أيّاً كانت الاضطرابات التي رافقت لبنان منذ قيامه، فحريّاته أحلى من السجن السوري الكبير. ولو حقّق الشيعة حلم وادي الحجير بضرب المشروع اللبناني، والانضمام إلى سوريا، لجنّدهم آل الأسد بعد ذلك بعقود قليلة، كما جنّدوا العلويّين، شبّيحة بخدمتهم. ولكان الشيعة اليوم يرتعدون تحت حكم الأصوليّين السنّة كما يرتعد العلويّون. المشروع اللبناني، الذي رفضه وادي الحجير لأنّ قاطرته مسيحيّة، خير ما حدث لشيعة جبل عامل منذ قرون.
لاحقاً، في الستيّنات والسبعينات، تكرّر سيندروم وادي الحجير – عنيت انسياق شرائح من الشيعة وراء خيارات تعاكس مصلحتهم – يوم انخرط الشباب الشيعي بالآلاف بأحزاب محليّة نسبت نفسها إلى اليسار. باسم الولاء للقضيّة الفلسطينيّة، سهّلت هذه الأحزاب عمل المسلّحين الفلسطينيّين في الجنوب، ما جرّ على شيعته ضربات إسرائيل ثمّ احتلالها له. ومنذ الثمانينات، وضع جلّ الشيعة أنفسهم بخدمة مشروع إيران بالمنطقة طمعاً بالانفراد بحكم لبنان بـ”صرماية السيّد”. النتيجة اليوم: أزمة عميقة بعلاقات الشيعة مع سوريا، ومع مكوّنات لبنان، وإذلال عسكري على يد اسرائيل.
باختصار، من زمن وادي الحجير، إلى اليوم، تتكرّر ظاهرة الانسياق الشيعي خلف خيارات مدمّرة للشيعة. متى تختلف هذه الخيارات؟ متى يغادر الشيعة واديهم؟