IMLebanon

في انتظار حرب تطهير لمّا تقع: «داعش» تنشر موازنة «دولة الخلافة»

في تحدٍّ علني للعالم أجمع، وتحديداً للدول التي أوفدت أساطيل طيرانها الحربي لمطاردة مقاتلي «داعش» بداية في العراق، ثمّ مَدّت مداها إلى مختلف أنحاء سوريا، أقدمت «دولة الخلافة الإسلامية» التي يتزعّمها «الخليفة ابو بكر البغدادي» على نشر موازنتها السنوية.. تماماً كما تفعل أي دولة قائمة شرعاً، يسودها النظام، ويلتزم رعاياها القوانين مرعية الإجراء.

لا تهمّ الأرقام التي كشفت عنها هذه «الدولة» والتي تبلغ مئات الملايين من الدولارات، إلا بدلالتها السياسية المباشرة، والتي تؤكد أن «أجهزة» هذه «الدولة» تعمل بكفاءة وتعتمد الدقة في إحصائياتها، وتتحدّى العالم كله الذي يدّعي قادته ـ غرباً وشرقاً ـ التعاون على قتالها حتى اقتلاعها من حيث تمدّدت. ففي المساحة ما بين الموصل في شمال العراق حتى حلب في أقصى شمال سوريا، تعلن هذه «الدولة» وجودها وتكشف عن انتظام إدارتها وأجهزتها» و «تصـارح» رعاياها بمداخيلها.

أخطر ما تدلّ عليه هذه «الموازنة» ليس الدقة في أرقامها، بل الإقدام على نشرها علناً، علماً أن «الدول» تتداول تقديرات غير محدّدة عنها، انطلاقاً من أرقام افتراضية لكميات النفط التي يستولي عليها مقاتلو «داعش» من منابعها في الأراضي العراقية والسورية التي يسيطرون عليها، ثمّ يبيعونها من جهات مختلفة أولها تركيا، التي لا تنفي التهمة ولكنها تردّها نحو النظام في دمشق، مدعية أنه يشتري «نفطه» من «داعش» عبر سماسرة بأسعار مخفضة، متجاهلاً مصدره، لأن سوريا بحاجة إليه…

وتلحّ على الناس أسئلة مقلقة وهم يتابعون أنشطة «داعش» متعددة الجبهات، في الداخل العربي الممتدّ ما بين اليمن على البحر الأحمر واللاذقية في سوريا على البحر الأبيض المتوسط: ماذا حققت غارات طيران التحالف، ومعها الطيران الحربي الروسي الذي جاء بعض أسطوله إلى قواعد على الساحل السوري، من أهداف، حتى اليوم؟ مئات الطائرات الحربية، أميركية وفرنسية وكندية وأسترالية، وقد تعززت بالأسطول البريطاني مؤخراً، تحتشد في سماء ما بين النهرين مع امتدادات إلى الداخل. فمتى سيلمس الناس نتائج قصفها، بينما أشباح «داعش» الذين يبدو أنهم يتزايدون ويوسّعون دائرة انتشارهم في اتجاه الولايات المتحدة الأميركية، مروراً بأوروبا التي ما تزال تبكي ضحايا التفجيرات الإرهابية في باريس؟

لا إجابات واضحة حتى الآن، ولا يتجرأ أي مسؤول في الشرق، كما في الغرب، على الحديث عن نهاية قريبة لـ«داعش»، لا في العراق ولا خاصة في سوريا التي تحوّلت معظم أنحائها إلى جبهات نار مفتوحة على «العصابات المسلحة» التي تزداد شراسة في القتال.

في هذه الأثناء، تتواتر الأخبار عن لقاءات ومؤتمرات ومشاورات ومشاريع تسوية لبعض الأزمات التي تفجرت ـ متزامنة ـ حروباً مدمرة في العديد من الدول العربية، وشغلت «الدول» عن «داعش» ولو مؤقتاً وإلى حين.

أمس الثلاثاء، انعقد في فيينا مؤتمر للبحث عن تسوية في اليمن يُفترض أن توقف الحرب الظالمة التي تُشنّ على هذا البلد العربي العريق، الذي شكّل ذات يوم عنواناً للحضارة الإنسانية. وبرغم التحفظات والشروط المتبادلة، فإن احتمال التقدّم ممكن في اتجاه تسوية لهذه الحرب غير المبررة التي شنّتها السعودية ـ جواً ـ معزّزة بقوات تدخل بري جمعت بين فصائل عسكرية من بعض دول الخليج وقوى محلية آتية من الماضي أو مرتدّة على منطلقاتها العقائدية التي حكمت بها ـ ذات يوم ـ جنوب اليمن بدعم مفتوح من الاتحاد السوفياتي، ثمّ انهارت عشية انهياره فالتجأت إلى الوحدة بالإكراه مع شمالي اليمن وتحت قيادة رئيسه آنذاك علي عبد الله صالح.

لقد استحال الانتصار، وفشلت طائرات حملة «إعادة الأمل» في تحقيق أهدافها السياسية بالقضاء على القوات المشتركة الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح وتنظيم «أنصار الله»، الذي يُطلق عليه السعوديون ومَن معهم تسمية «الحوثيين»، لدمغه بالطائفية واستنفار السنة ضـد الشيعة، بحيث تتّخذ هذه الحرب موقعها في سياق الفتنة الكبرى التي تجتهد أطراف عديدة، دولية وعربية، في تأجيجها تحت عنوان «مواجهة إيران وولاية الفقيه» وأطماعها التوسعية التي تتمدّد على طول المسافة بين البحرين المتوسط والأحمر.

ليكن التفاوض بديلاً من الحرب إذاً، حتى لو استدعى الأمر التوصل إلى اتفاق يبدأ بهدنة عسكرية ثمّ يتمدد في السياسة بين الرياض (ومَن معها) وطهران (ومَن معها) في ظل رعاية دولية، قد يشارك فيها الأميركيون والروس، ولو من بعيد.

وقد يساعد على إنجاح هذه المفاوضات أن أطرافها جميعاً تتبدّى منهَكة بعد حوالي تسعة شهور من حرب مكلفة في الأرواح وفي أسباب العمران، فضلاً عن استحالة «النصر العسكري السريع» الذي توهّم قادة «إعادة الأمل» أنه يمكن تحقيقه بسرعة قياسية نتيجة الاستخدام المكثف للطيران الحربي في بلاد يصعب على المشاة التقدّم فيها.

أما على المسرح المشرقي، فثمة أزمة سياسية جديدة تفجّرت بين العراق وتركيا، بسبب بعض القوات التي كانت أنقره قد أوفدتها إلى الشمال الكردي في العراق وبذريعة «تدريب» قوات «البشمركة»، أي جيش إقليم كردستان الذي لا يفتأ قادته يعملون على تثبيت قواعد انفصاله عن «دولة العراق»… وهم قد حرصوا على القول إن تدابيرهم استثنائية ومؤقتة واضطرارية سببها الفعلي ارتباك الحكم في بغداد وتقصيره في الوفاء بالتزاماته المالية تجاه «الإقليم»، علماً بأن هذا الإقليم يبيع نفطه مباشرة، ويحتفظ بعائداته، ثمّ يمضي قدماً في توسيع علاقاته مع أنقره التي تستريب بغداد في علاقاتها بـ «داعش»، كما في محاولاتها الدؤوبة التي تستهدف تحـريض «السنة» ضد «الشيعة» المتهمين بأنهم يحتكرون السلطة في بغداد. وبيــن الاتهامــات العــــراقيــة (والسورية) لأنقره أنها قد سهلت «الدخول الأسطوري» لـ «داعش» إلى العراق والذي بلغ ذروته السينمائية بخطاب «الخليفة» أبي بكر البغدادي من الموصل. أما سياقه في التواطؤ العملي، فيتمثل في أن تركيا تشتري بعض نفط العراق وبعض نفط سوريا المنهوب من هذا التنظيم الإرهابي الذي سيطر على بعض منابع النفط وخطوط نقله في البلدين معاً.

في المقابل، تتسارع المشاورات واللقاءات الدولية حول الحرب في سوريا وعليها، وبينها كان المؤتمر الذي جمعت فيه السعودية أشتات المعارضات السورية، التي وُصفت بأنها سياسية أساساً، وإن كانت قد ضمّت فصائل مسلحة، وخرج بموافقة مبدئية على المشاركة في المؤتمر المقرر انعقاده في نيويورك، وبرعاية الأمم المتحدة في الشهر المقبل مبدئياً. ويمكن اعتبار اللقاء الذي جمع أمس وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا في موسكو، بمثابة التمهيد العملي لهذا المؤتمر الذي يُفترض أن يجمع ممثلي النظام وممثلي المعارضات المختلفة، باستثناء «النصرة» و «داعش».

لقد طرأت مستجدّات ميدانية خطيرة قد تعجّل في المساعي الهادفة إلى إيجاد حل سياسي للحرب في سوريا وعليها.

وإذا كانت هذه المستجدّات قد تفرض على أنقره شيئاً من الهدوء والحذر في تعاطيها مــع الحرب، في سوريا وعليها، ومزيداً من الدقة في تعاملها مع موسكو، فإن الرياض قد عدّلت من سلوكها مع المعارضة السورية التي جمعتها عندها، في جو ضاغط نتج عنه بيان «هادئ نسبياً»، لا سيما إذا قيس بالمؤتمرات السابقة التي رعتها أنقره أو الدوحة أو بعض العواصم الأوروبية.

على هذا، فالكل ينظر إلى اللقاء الجديد الذي تمّ بالأمس بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي في موسكو على أنه يشكل محطة مفصلية في سياق العلاقات بين الدولتين الكبيرتين، وتحديداً في ما يتصل بمسألة الحرب في سوريا وعليها، وربما شمل بتأثيره، أيضاً، المؤتمر المزمع انعقاده بين الوفدين اليمنيين اللذين أوقفا إطلاق النار، مؤقتاً، للتفاوض حول مشروع حل سياسي يوقفها نهائياً عبر صيغة مقبولة لحكم اليمن.. برضا سعودي وعدم اعتراض إيراني، وموافقة مصرية ولو مكتومة.

في هذه الأثناء يتسلى اللبنانيون بأخبار الانتخابات الرئاسية التي شهدت محاولة لم يقدَّر لها النجاح لتمرير اتفاق ثنائي بين رئيس الحكومة السابق سعد الحريري والنائب سليمان فرنجية، يقضي بترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية (وهو موقع شاغر منذ أكثر من سنة ونصف السنة) مقابل أن يكون الحريري رئيساً لحكومة العهد المقبل.

لكن المحاولة جاءت مرتجلة إلى حد كبير، متجاهلة مواقف «الناخبين الكبار» في الداخل، ومن دون الضمانات الكافية من الناخبين في الخارج. غير أنها نفعت في التسرية عن اللبنانيين الذين يعيشون عملياً بلا دولة، ولو لأيام معدودة، خارج دائرة الإرهاب بالتفجيرات قاتلة الأطفال.