الله وحده الأعلم بما سيفعله السوريون باللبنانيين في لحظة غضب. الحديث هنا ليس عمّا يمكن ان يقدم عليه مواطن سوري في لحظة انفعال، ولا عن تحذيرات من ان السوريين، متى عاد الاستقرار الى بلادهم، سيبحثون في سبل الانتقام من عنصرية لبنانية. بل الحديث عن احتمال حقيقي بأن يفكر السوريون الذين يقيمون اليوم في لبنان، بثورة ضد السلطات اللبنانية، ليس الرسمية فحسب، بل الأمنية والحزبية والاجتماعية والاهلية أيضاً.
قبل ثلاثة اسابيع، تسنّت لي مراقبة طابور يمتد لنحو 3 كيلومترات، على الاقل، لسيارات سورية ولبنانية تحمل العشرات من المواطنين الآتين صوب لبنان. عناصر الامن العام اللبناني ينقسمون بين عناصر تقف على حاجز مستحدث يبعد قليلاً من المركز الحدودي، وآخرين يتجولون بين السيارات ويتحدثون مع القادمين. ليس من حاجة الى استراق السمع.
«التأشيرة» نتيجة طبيعية لعنصرية واكبت الغباء عند السياسيين اللبنانيين تجاه كل السوريين
لكن تكفي مقابلة مواطن سوري تسنى له الخروج بسلام من مركز الامن العام ومعه اذن دخول، او سماع مواطن آخر امضى ساعات طويلة في الانتظار قبل ان يرد على اعقابه، حتى تدرك حجم التعبئة السوداء التي تسكن نفوس هؤلاء. ولم يكن ينقص الطين إلا بلة التأشيرات التي صار السوريون بحاجة اليها حتى يمكنهم الدخول الى لبنان بقصد مراجعة طبيب او تفقد الاولاد او انجاز عمل او العبور منه نحو بلاد أخرى.
ما جرى الحديث عنه من تحقيق مسلكي داخل الامن العام لمعاقبة عناصر لا تحترم حقوق القادمين من السوريين، سيظل امراً بسيطاً جداً إزاء ما هو مطلوب من اجراءات، تمنع ابشع عملية اذلال يتعرض لها هؤلاء كل يوم. مع العلم، ان جميع من في السلطة في لبنان، يعلم، كما الناس العاديون، ان هذه الاجراءات لن تفيد في ردم الهوة. فالسوري المضطر للمجيء الى بيروت لقضاء حاجة او هرباً من الحرب، مستعد لتحمل مشقة السفر، ومستعد لتحمل كلفة الاذلال والتعب، ومستعد لأن يدفع الرشوة المطلوبة، لأن لا بديل لديه في هذه اللحظة.
السوريون اليوم ما عادوا يميزون بين لبناني وآخر. لا الديانات والمذاهب تنفع، ولا الطبقية الاجتماعية او التمييز السياسي له دوره. لقد باتت غالبية ساحقة من اللبنانيين تتصرف كما نظام الفصل العنصري تجاه مئات الألوف من السوريين الهاربين من جحيم الحرب في بلادهم. وليس للهارب من الحرب ترف الاختيار بين اماكن اللجوء. لكن لهذا الهارب جهاز عصبي له قدرة محددة على الاحتمال. وساعة الانهيار لن تجعل الغاضبين يميزون بين لبناني وآخر، وسيتصرفون على اساس ان اي عقاب سيتعرضون له من قبل اللبنانيين، سلطة او احزاباً او جماهير، لن يكون أعلى كلفة من الاذلال الذي يتعرضون له اليوم. وعندها نكون امام لعبة خاسر ــــ خاسر، وليس امام لعبة رابح ــــ رابح.
كل المعطيات تقول ان الحكومة اللبنانية لجأت الى القرار بصورة منفردة. لماذا؟ لأن فيها عباقرة لا يريدون التباحث مع السلطات السورية في شأن معالجة هذا الأمر. في حكومتنا تفّه، مستعدون لدفع ملايين الدولارات وارسال شاحنات محملة بكل ادوات العيش الى مجموعات من المجرمين الذين يخطفون عسكريين لبنانيين في الجرود. وفي حكومتنا تفّه، مستعدون لمفاوضة هؤلاء المجانين ليل نهار، لكنهم غير مستعدين للتحدث مع حكومة دمشق حول مصير مليون ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان.
والانكى، ان الجهات السياسية والوزارية والحزبية التي ثارت ضد مواقف التيار الوطني الحر حول ضرورة ضبط عملية النزوح قبل عامين، هي نفسها التي تقود، اليوم، عملية فرض اجراءات تعسفية. بقصد ماذا؟ بقصد ضبط عملية النزوح من سوريا الى لبنان. ووجد مندوب تيار «المستقبل» في الحكومة رشيد درباس، بعد كل هذه الفترة، ان «الحكومة اللبنانية على استعداد للتنسيق مع الحكومة السورية بشأن إعادة اللاجئين إلى بلادهم لا سيما في المناطق الآمنة» على ما نقلت عنه «الشرق الاوسط» السعودية. لكن ذروة الكوميديا السوداء أتت من جانب المتحدثة باسم الخارجية الأميركية جنيفر ساكي التي عبرت عن «قلق بلادها العميق بشأن الاجراءات التي ستخلق تحديات إضافية تواجه اللاجئين الفارين من النزاع السوري»، وتكرمت علينا المسؤولة الاميركية بالقول ان بلادها «ممتنة جداً لحكومات وشعوب لبنان وتركيا والأردن والعراق على استضافة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري بالاجمال، ونحن ندرك ان هذا الأمر يشكل تحدياً هائلاً لاقتصاداتها وخدماتها العامة».
كل ما سبق لا يفيد في شيء. وكل ما يمكن قوله حول علاجات واجراءات لن يفيد في شيء. الأمر الوحيد الممكن لفت انتباه من يهمه الامر اليه، هو ان السلطة السياسية في لبنان، وقوى 14 اذار، ومن خلفها دول عربية واقليمية ودولية، ستظل المسؤولة عن هذه الجريمة المتمادية، ما لم تبادر الى وقف ارسال السلاح والمسلحين الى سوريا، وتعيد تنظيم علاقاتها مع الحكومة السورية، وتساعد في اعادة الامن والامان الى هذه البلاد، حتى يقدر اللاجئون الذين يتعرضون للقتل بأساليب مختلفة عن الرصاص، على العودة لتفقد ما تبقى من اشارات حياة لهم حيث ولدوا وحيث يرغبون في العيش والموت.